Article. المقال. ( Mai )







بيت الجيران



 بقلم 

 الدكتور / عصام دميان





من الأفكار ما هو معلوم النَسَب معروف المصدر، ومنها ما يصعب تتبّع نشأته أو التحقّق من منابعه ! وفي كلتا الحالتين يبقى العقل حكماً على الأفكار ، وتبقى الأفكار عند تطبيقها تحت الاختبار ، حتى تثبت النتائج مدى صحتها أو خطأها .

غير أن طائفة من الأفكار والمبادىء لا تخضع للقياس ولا يمكن اختبارها ، بل وتتجاوز حدود المنطق والمعقول في كثير من الأحيان ، ولا يمكنها الصمود أمام الجدل العقلاني ، ولا برهان ملموس عليها ، الا انها تملك على العقول وتسود على المشاعر في طول الأرض وعرضها ! ونلمس تأثيرها في كل نشاط إنساني مُورِس أو يمارس على وجه الأرض !

ولعل أبرز ها التفسيرات المقترحة لوجودنا وما نواجهه في الحياة ، وما قد نلقاه بعد الموت ، والتي تخطّت مرحلة الأفكار وبلغت رتبة العقائد !
وتتعدّد تلك التفسيرات ، تتشابه وتختلف ، و كل منها مشفوعاً برواية لما كان قبل أن نكون ، وتصوّر لما يجرى هناك ، حيث لم يعد أحد ليخبرنا بما جرى حقّاً!

ويتضمّن كل مقترح عدد من التوصيات بما يجب أن ..وما ينبغي ألّا.. متبوعة بالوعد بالجوائز لمن أذعن والوعيد بالأهوال لمن تجاوز . وهي لا تلزمك وحدك بتنفيذ توصياتها ، وإنما هي التزامات نرثها ونوّرثها .

ورغم أن تلك التفسيرات لا تقدّم أدلّة لرواياتها ، إلا أنها تبقى صامدة أمام النقد في عيون أتباعها ! فهي المبرّر المتاح ، لحياة ٍتبدو كأنها بدأت وتمارس وتنتهي دون أن تعير إرادة الأحياء أهمية تذكر. وتقدّم العذر المباح لظروف وملابسات تفرض عليهم ، لا هم صنعوها ولا استدعوها ، ولا قبلوا بها ، الا عنوة ! فماذا يجنون لو رفضوها ؟!!!!

فهي ملجأ البشر لاحتمال ما لا يطيقون ، و القادرة على إثارة حماسهم لما لا يدركون ! وهي دافع رئيسيّ للكثير من الأفعال ، والمانع لأفعالٍ أخرى . وقد تسلبهم إرادتهم و تئد احلامهم و تطفيء فضولهم ليتقلّدوا وسام الإيمان ! تقدّم الإجابة الغامضة ، المقبولة سلفاً ، وربما قهراً ، لكل سؤال لا إجابة له.

وتتميّز تلك المقترحات السرمديّة الغامضة ، عن غيرها من المقترحات التقليديّة التي يتبادلها أمثالنا ، الأحياء الآن والذين يموتون غداً ، بأن قبولها يكون إجمالاً ، فهي لا تقبل التجزئة ولا تسمح بالتحفظات ! ناهيك عن المراجعة .

ورغم ذلك لا يحتمل الانسان حياته بدونها ! ويعجز عن تخيّل نفسه دون خلفيته الدينيّة ، ويهاب مجابهة الواقع إلا من خلف ساتر هذه الأفكار والمعتقدات الدينيّة . ويحتمي من مخاوفه الظاهرة بما يعتقد من مخاوفه الخفيّة .

فحين يعتقد الإنسان اعتقاداً يحتفظ بقدرته على نقد اعتقاده واستبداله باعتقادٍ آخر يحتمل النقد بدوره … أمّا حين يعتقد الإنسان عقيدةً ، أعتقد أنه يصعُب عليه نقدها وإعمال عقله فيما اعتقد !

فالعقائد تعاقدات ، لا تقبل التراجع عنها ، ولا تكتفي بالتزام المتعاقد بالتنفيذ، وانما تسلبه الحق في الشعور بالتململ أو الضجر منها ، وتكلّف حارسها المسمّى بالضمير بأن يوسعك تأنيباً ووخزاً موجعاً ، إذا ما انفلت عقلك وتجرّأ على التدخّل في تلك العلاقة !

فهي صخرة صلدة تتكسر عليها كل ادعاءات العقلانية والموضوعيّة والاستنارة ، فالجميع تنويريّون عند مناقشة عقائد الآخرين و حالكي الظلام ان مسّ الضوء عقائدهم ، وكلنا عقلانيّون طالما لم تتصادم مخرجات العقول وعقيدتنا ، والموضوعيّة ديننا و ديدننا مادام الدين خارج الموضوع !!!

ورغم أن الأفكار التي قامت عليها العقائد ، تتضارب وتقاوم بعضها البعض ، حتى أمكن تصنيفها على أسسٍ مختلفة إلى فئاتٍ متعددة . منها ما ينسب الكون إلى إله خالق ، أو عدة آلهة ! ومنها ما يعود بالفضل لقوى خفيّة أخرى ! ومنها ما يجزم بأن العالم الظاهر وحده يقدّم التفسير الحقيقيّ …

بعضها ينسب للإله كامل القدرة ليحتمي به ، وكل العدل ليطمئن في كنفه ، وعظم الرحمة ليتقبّل ذاته الآثمة ، ويراه الحكمة الكاملة ليركن الى حكمته الالهية ولا يثقل على ذاته الانسانيّة بضرورة تفسير وتقييم ما يستعصي عليه من أحداث ! وأفكار أخرى نسبت لآلهتها النقائص والضعفات وسوء النيّة ، فصار على الإنسان مواجهتها واقتناص حقوقه وسعادته ومعارفه من بين براثن آلهة لا يميّزها عن الانسان سوى الخلود وبعض القدرات الخاصة !

إلا أن كل تلك التناقضات ، لم تمنع الانسان من التمسك بمعتقداته ، ولم تقدم له الذريعة الكافية ليكف عن الاعتقاد ! ولا استطاع المنطق أن يحكم على هذه الطائفة من الأفكار بموضوعيّة وتجرّد. وتوالت انتصارات العقائد على العقول ، حتّى بدا أنهما قد كفّا عن المنافسة ، ربما بدافع الملل ، وتعايشا كمن يسكنا منزلين متقابلين لكل منزل قواعده ولا يملك أي ساكن حق التدخل فيما يجرى ببيت الجيران !







 


 

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

Article المقال ( Septembre )

Article المقال ( Octobre )

Article المقال ( Septembre )