Article المقال ( Octobre )





 

كيف تحول المأساة لصالحك

استخدام الملل لعلاج الملل


إعداد 

دكتور  / محمد مصطفى محروس



الملل هو كالعاصفة الصامتة التي تجتاح حياتنا دون سابق إنذار، يقف كالحاجز غير المرئي بيننا وبين السعادة. إنه مثل ساعة رملية تتباطأ حبيباتها شيئًا فشيئًا، حتى تصبح الحياة أشبه بفيلم يعاد تشغيله مرارًا دون تغيير في السيناريو. في قلب هذا الملل، نكتشف أن الزمن نفسه يبدو وكأنه قد توقف، وأن الأيام أصبحت مثل صفحات مكررة في كتاب، نعرف محتواه حتى قبل أن نقرأه.

الملل هو كالأفق الرمادي الذي يلوح في الأفق، يشير إلى أيام بلا ألوان، حيث يبدو العالم وكأنه قد فقد حيويته. إنه شعور يتسلل إلى حياتنا كغيم ثقيل يغطي الشمس، مما يجعلنا نتساءل عن مغزى وجودنا. وكأننا في رحلة عبر الصحراء القاحلة، نتوق إلى واحة من الإثارة والاهتمام، لكننا نجد أنفسنا محاطين برمال رتيبة تدفن أحلامنا وطموحاتنا.

عندما نحاول الهروب من الملل، غالبًا ما نلجأ إلى ترفيه سطحي، كالشخص الذي يحاول إخماد جوعه بتناول وجبات سريعة، دون أن يدرك أنه يحتاج إلى غذاء حقيقي. تلك الهربات المؤقتة قد تملأ وقتنا ولكنها لا تشبع أرواحنا. في الحقيقة، كلما حاولنا تجنب الملل، زاد الشعور بالعزلة عن الذات. كما أن العزف على آلة موسيقية دون تنويعات، يجعل الموسيقى مملة، فإن الحياة بلا تنوع أو استكشاف تتحول إلى رتابة قاتلة.

عندما ننظر إلى الملل بعمق، نكتشف أنه ليس مجرد حالة مزعجة يجب التخلص منها بسرعة. على العكس، الملل يمكن أن يكون كالمرآة التي تعكس لنا جوانب غير مرئية من حياتنا. إنه اللحظة التي تتوقف فيها عقارب الساعة، وتجبرنا على النظر داخل أنفسنا. مثلما نحتاج إلى الصمت في الموسيقى لتقدير الجمال في الأصوات، فإننا نحتاج إلى الملل لنفهم قيمة اللحظات المفعمة بالحياة   الكاتب الفرنسي جان بول سارتر، الذي تحدث عن الملل كحالة وجودية تجبر الإنسان على مواجهة عبثية الحياة وسؤال المعنى. كان يرى أن الملل هو تلك الفجوة التي تنشأ بين الإنسان والعالم، حيث تتوقف الأشياء عن إثارة الاهتمام وتبدو كل التفاصيل غير ذات جدوى. ورغم هذا العبث الظاهر، كان الملل عند سارتر بوابة لفهم أعمق للحياة، حيث يتعين علينا مواجهة الحقائق المجردة لنكتشف أنفسنا بشكل أكثر صدقًا الملل يشبه التربة القاحلة التي تنتظر المطر، تلك اللحظات التي تبدو عقيمة في حياتنا قد تكون في الحقيقة الأرض الخصبة التي تحتاج فقط إلى الفكرة الصحيحة لتنمو. من خلال هذا المنظور، لا يجب أن ننظر إلى الملل كعدو، بل كأداة يمكن أن تكون محفزًا لنقلنا من حالة الركود إلى حالة الإبداع. في هذه اللحظات التي نشعر فيها بالفراغ، يمكننا أن نختار بين أن نبقى محاصرين داخل دوامة الروتين، أو أن نصنع منها انطلاقة نحو آفاق جديدة  تخيّل نفسك في غرفة فارغة، حيث لا يوجد شيء يشغل انتباهك. في البداية، قد تشعر بالضيق والرغبة في الهروب، لكن إذا بقيت لفترة كافية، ستبدأ في رؤية الإمكانيات المخفية. ربما تبدأ بتغيير ديكور الغرفة في ذهنك، أو تتخيل مكانًا جديدًا تمامًا. هذا ما يفعله الملل، إنه يجبرنا على النظر إلى العالم من زاوية مختلفة، على خلق قصص جديدة في أذهاننا، وعلى البحث عن طرق جديدة لملء الفراغ.

الملل قد يصبح كنافذة مفتوحة على عالم جديد، إذا ما نظرنا إليه من منظور مختلف. تخيل لحظة تجلس فيها في حديقة، محاطًا بألوان الأزهار وروائحها الزكية. في البداية، قد يبدو لك الوقت متوقفًا، لكن مع مرور الوقت، ستبدأ في ملاحظة تفاصيل الحياة حولك. ربما ترى نحلة تطير من زهرة إلى أخرى، أو طفلًا يلعب بحماس. هذه اللحظات قد تبدو عادية، لكنها تحمل في طياتها دروسًا قيمة عن تقدير الأشياء الصغيرة. عندما نتقبل الملل، نمنح أنفسنا الفرصة لاكتشاف تلك التفاصيل التي تجعل الحياة أكثر إثارة.

الملل هو بمثابة تجربة السكون قبل العاصفة. في العديد من الأحيان، تكون تلك اللحظات التي نشعر فيها بالركود هي التي تدفعنا نحو الابتكار. المخترع توماس إديسون يقول إن العديد من أفكاره جاءت خلال لحظات من التأمل العميق والملل، عندما كان يجلس في ورشته، محاطًا بالأدوات ولكنه لا يعرف إلى أين يتجه. في تلك الأوقات، تحررت أفكاره من قيود الروتين، وأصبح قادراً على اختراع مصباح كهربائي غير مجرى تاريخ الإنسانية.

في العلاقات، الملل غالبًا ما يُعتبر علامة على نهاية الحب أو الاهتمام. لكن، كما يُعتبر الشتاء فترة راحة للطبيعة قبل أن تتفتح الأزهار في الربيع، فإن الملل يمكن أن يكون فترة تحتاجها العلاقات لإعادة تقييم الروابط. عندما يشعر الشريكان بالملل، يمكن أن يكون ذلك دعوة لإعادة اكتشاف بعضهما البعض بطرق جديدة. ربما تجربة شيئ جديد معًا، كتعلم رقصة جديدة أو القيام برحلة مفاجئه إلى مكان جديد ، يمكن أن يعيد الشرارة التي كانت موجودة.

الملل أيضًا يمنحنا الفرصة للتفكير في حياتنا وأهدافنا. كما يحتاج الفنان إلى لحظات من الصمت ليتأمل إبداعه، فإننا أيضًا نحتاج إلى تلك الفترات من الفراغ لنفكر في المسارات التي نسلكها. يمكن أن تكون هذه اللحظات هي التي نكتشف فيها شغفًا جديدًا أو فكرة مبتكرة لمشروع نريد إنجازه، العديد من رواد الأعمال الناجحين  بدأوا أعمالهم بعد فترات من الملل والضجر من العمل التقليدي، حيث اكتشفوا فكرة جديدة كانت كافية لتغيير حياتهم.

في نهاية المطاف، الملل ليس عدوًا، بل هو صديق خفي قد يساعدنا في التحول. إنه كحجر الفلاسفة الذي يحول الرصاص إلى ذهب. إذا تعاملنا معه بشكل صحيح، يمكن أن يصبح الملل دافعًا لإعادة اكتشاف أنفسنا، ودعوة للابتكار. كل لحظة من الملل تحمل في طياتها إمكانية التحول، كما أن السكون قبل العاصفة يمنحنا فرصة للاستعداد لما هو قادم.

الملل هو أيضًا دعوة للتأمل. يمكن أن يكون تلك اللحظة التي تجلس فيها مع نفسك، تفكر في اختياراتك، في الماضي والمستقبل. عندما ندرك أن الملل هو جزء طبيعي من الحياة، نتقبل الحضور الكامل للذات، ونتعلم كيفية تحويل تلك الطاقة السلبية إلى فرصة للنمو.

لذلك، دعونا نعتبر الملل كفرصة، كنافذة نطل من خلالها على إمكانيات جديدة. لنقبل تلك اللحظات بهدوء، ولنستخدمها كفرصة للإبداع والتفكير العميق. في كل لحظة من الملل، يمكن أن تكون هناك بذور الإبداع التي تنتظر أن تُزرع، وحين نمنح أنفسنا فرصة للاسترخاء والتأمل، سنكتشف عالمًا جديدًا داخلنا وحولنا، عالمًا مليئًا بالإمكانيات التي لم نفكر في استكشافها من قبل دعونا نستخدم المشكله لصالحنا.


دكتور / محمد مصطفى محروس


Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

Article المقال ( Septembre )

Article المقال ( Septembre )