Article المقال (Fevrier)






   أدونيس ... شاعر الحداثة الأسطوري  

2/2 



بقلم : أ.د. عصام الدين فتوح

أستاذ الأدب الإنجليزى – قسم اللغة الإنجليزية وآدابها

كلية الآداب

جامعة الإسكندرية




لست متشائماً. أنا ثائر على كل شيء، والمتشائم لا يكون ثائراً بل يكون منهزماً.

وأنا القائل: يروق لي تمردي فأشتهي تمرداً حتى على التمردِ.




محاولة "للخروج من حد المملوكية إلى حد الحرية"

تناولنا في المقال السابق رحلة أدونيس من سوريا إلى لبنان، وظهور أولى دواوينه الشعرية، وعمله بالصحافة وريادة الشعر الحديث، ونستكمل قصتنا اليوم بمرجعه الام "الثابت والمتحول".

الثابت والمتحول

في عام 1973، أتم أدونيس أطروحة قدمت إلى معهد الآداب الشرقية، بجامعة القديس يوسف ببيروت، لنيل درجة الدكتوراة في الأدب العربي تحت عنوان "الثابت والمتحول: بحث في الإبداع والاتباع عند العرب"، وكان شأن أدونيس في هذه الدراسة شأنه في كل ما كتب من دراسات وأبحاث – أصيلاً ومتجاوزاً.

لا تتعدى رسائل الدكتوراة عادة دراسة مكثفة ومحدودة لظاهرة أدبية بعينها، أو الإنجاز الإبداعي لكاتبٍ أو شاعرٍ، بتسليط الضوء على جانب مهم من جوانب ابداعه باستعراض الدراسات السابقة للموضوع قيد البحث، واتباع منهج محدد للوصول إلى نتائج محددة، تضاف بدورها إلى التراث النقدي المرتبط بالموضوع.

تميز بحث أدونيس بأصالة سمحت له بتجاوز هذا المفهوم الأكاديمي الضيق للدراسات الأدبية، جاعلاً من بحثه مصدراً جديراً ومبتكراً، قادراً على الولوج إلى لب إشكالية التراث والمعاصرة، ومضاهاة القديم بالجديد، التي أرقت الفكر العربي منذ رفاعة الطهطاوي وأحمد لطفي السيد وقاسم أمين، وصولاً إلى معاصريه من أمثال عبد الله العروي ومحمد أركون ومحمد الجابري ومحمود أمين العالم.

ويعرّف أدونيس الثابت في إطار الثقافة العربية، المرتكزة على النص الديني، ليتخذ الثابت من ثبوت النص حجة لتأويله وتقويمه، فيجعل النص من نفسه سلطة معرفية عليا، لا يمكن مسائلتها أو مراجعتها بأي شكل من الأشكال. أما المتحول في تعريف أدونيس، فهو الفكر المنفتح عن طريق التأويل بإعادة قراءة النص، مستفيداً من قابليته للتكيف مع واقعه، معتمداً أساساً في اصدار أحكامه على العقل لا النقل.

والعلاقة ما بين الثابت والمتحول طبقاً لأدونيس علاقة جدلية، إذ يمكن للثابت أن يصبح متحولاً، كما يمكن بالعكس للمتحول أن يصير ثابتاً. ولعل المقياس الوحيد للمقارنة ما بين الإثنين هو جمود الثابت وديناميكية المتحول.

وتتكون تلك الدراسة النقدية الفكرية الموسوعية لأدونيس من أربعة أجزاء، يمكن اعتبار كل منها مِفصلاً هاماً أو ركناً من أركان فكره التي أقام عليها صرحاً تاريخياً وفكرياً استند إليه. ومما يميز تلك الدراسة اتخاذ أدونيس، وربما لأول مرة، دور الطبيب المعالج في تشخيصه للعلة الأساسية التي تعاني منها بنية الفكر العربي المعاصر، إذ يبدأ بتأصيل الجذور، أو التاريخ الطبي للكيان الفكري العربي بأعراضه المختلفة، وما أطلق عليه "تأثير صدمة الحداثة" على هذا الفكر وموروثه الشعري.









كان من الطبيعي، إذاً، في الجزئين الأول والثاني – "الأصول" و"تأصيل الأصول" – أن يرتدي أدونيس عباءة المؤرخ، شأنه في ذلك شأن العديد من أهم أدباء النهضة العربية ومفكريها، من أمثال أحمد لطفي السيد وطه حسين ومحمد حسين هيكل، والعشرات غيرهم من المؤرخين العرب وفلاسفتهم الكبار. إلا أنه يجدر الإشارة هنا إلى أن معظم اسهامات عصر النهضة العربية في التأريخ للحضارة العربية اعتمدت في المقام الأول على سرد رسمي، يهتم أولاً بتاريخ الخلفاء والحكام وأولي الأمر، وثانياً بالصراع من أجل السلطة وتثبيت أركانها.

ومثل تلك السرديات تتجاهل – إما عن عمد أو عن انحياز أيديولوجي تقليدي – الجموع الشعبية الغفيرة الواقعة تحت وطأة المؤسسات السياسية والاجتماعية القمعية المهيمنة. فتقدم رؤية أدونيس التاريخية سرداً مناقضاً وناقداً بإنحيازاته الواضحة لجماهير شعبية مستلبة، وإعلائه لحركات ثورية لم يُسمح لها بالتطور والارتقاء، مثل ثورة الزنج، وحركة القرامطة، وفكر المعتزلة، والإنجازات الفكرية العظيمة للحركة الصوفية في تاريخ الفكر العربي.

يتتبع أدونيس الأصول الفكرية لما يطلق عليه "الثابت" إلى بدايات الدعوة الإسلامية التي قدست النص الديني كمعيار ثابت أوحاه الخالق عن طريق الوحي إلى رسول انتقاه واصطفاه لأن يكون آخر رسله "عز وجل" إلى البشرية جمعاء. وقداسة النص بهذا المعنى لا تتقبل أي مساءلة أو اختلاف، بل وتجعل منه نقطتي البداية والنهاية لأي فكر انساني في أي زمان وأي مكان، فيسمو النص المقدس ويَجُبُّ أي نصٍ ماض، سواء تمثل هذا في عقيدة سابقة أو ابداع بشري كالشعر مثلاً، ويتم اقصائه كفكر مغاير، إما كلون من ألوان الإلحاد، أو الحقيقة المنقوصة.

ويرى أدونيس في اجتماع سقيفة بني سعد لاختيار أول خليفة للمسلمين، حتى وقبل أن يوارى جثمان النبي الثرى، والذي كانت فيه الغلبة لفرض أبا بكر خليفة، معليةً الولاءات العصبية والقبلية، مستخدمة ألوية الدين، ومستمدة شرعيتها من الله والرسول والكتاب، وبالتالي أسست السلطة الدينية، متضافرة مع السلطة السياسية في إقامة الثابت كعنصر حاكم وأوحد للدولة الإسلامية.

أما في الجزئين الثالث والرابع، فيركز أدونيس على تحدي ما يطلق عليه "الحداثة" على محاولات الفكر عامة، والشعر خاصةً، لاستكشاف المجهول، والتسليم بلا نهائية المعرفة، بينما تنطلق السلفية من افتراض الكمال للنص المقدس، والعمل على نقله أو تناقله عبر الأجيال باقصاء الابتداع بما يحتويه بالضرورة من بدع مضللة، لا تفضي – من وجهة نظر الثابت – إلا إلى الجحيم: كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

يرى أدونيس أن الحداثة في التاريخ العربي، بدأت فكرياً وسياسياً بتأسيس الدولة الأموية، التي شهدت تحدياً من ثقافة الغير، المتمثلة في الآرامية والسيريانية شرقاً، والبيزنطية الرومية غرباً. ظهرت الحداثة، إذاً، على هيئة صراع بين نظام حكم يستند إلى السلفية، وتيار يدعو للثورة وتغيير هذا النظام الشمولي المهيمن.

على المستوى الفكري، يرى أدونيس في الحركات الثورية بدءاً من الخوارج، وانتهاءً بثورة الزنج، مروراً بالحركة القرامطية، دعوات للمساواة، قد تصل إلى عزل الحاكم خارج كل موروث. أما من الناحية الفنية، والمرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالشعر، فيرى أدونيس عند أبي نواس من جهة، محاولة للارتباط بالحياة المدنية، ونبذ التقاليد الشعرية البدوية، ومحاولات أبي تمام الثورة على الأنماط التقليدية، والقواعد الجامدة للشعر الكلاسيكي من جهة أخرى، أول تأصيل لما سُميَّ بالحداثة في الشعر، وما سعى أدونيس نفسه للتبشير به من داخل التراث ذاته لا من خارجه. وقد استكمل أدونيس الجزء الرابع والأخير من تلك الدراسة الرائدة بدراسة مطولة أطلق عليها "ديوان الشعر العربي" في ثلاثة أجزاء.

وتوالى ظهور طبعات منقحة ومزودة أحياناً بمراجعات لكتاب "الثابت والمتحول"، ليصبح محوراً هاماً، ومساراً للاحتذاء والنقد، ومحتلاً لمكانة متميزة في الأدب العربي الحديث.

*   *    *

خاتمة

يأخذ الكثير من النقاد والمفكرين على الشاعر الكبير نزعته المثالية وتطلعاته المستقبلية، التي تشتط إلى الطوباوية، بينما يرى آخرون نوعاً من التشاؤم في تقييمه للتراث العربي، والمحاولة لخلخلته بطريقة قد تبدو معادية للشرق، بل وللإسلام ذاته، وتمثل ركناً أساسياً من مشروعه الفكري والفني.

أما بالنسبة للأولى، والتي قد تصدق على بعض كتابات الشاعر الكبير، فالرد المباشر والبسيط الذي يتبادر إلى الذهن لأي ناقد جاد في تناوله لأعظم إنجازات الشعر العالمي، أن يتساءل عما إذا كان يخلو مؤسسو الثقافة الإنسانية، من هوميروس إلى دانتي إلى شيكسبير إلى إليوت، من أثر طوباوي مماثل، ونزعة مثالية، تجلت في أعظم أعمالهم الشعرية.

أما الرد على من يرون في أعمال أدونيس روحاً عدائية ومدمرة، فما عليهم إلا أن يجابهوا واقعنا الراهن، بإمكانياته المادية الهائلة، وجيوشه الجرارة، وقدرته على استهلاك أعظم ما انتجته الحضارة الغربية من منتجات مادية دون أن يقابلها فكر عظيم بالمقابل، بل وعليهم أن يبرروا انتشار الفقر والجهل والمرض بعد مرور عقود من الاستقلال والتحرر الوطني.

وأخيراً وليس آخراً، من الواجب التوكيد على أن أدونيس يظهر احتراماً عظيماً لحرية الفرد الروحية، وإنما واجه التحجر في تأويل النص الديني الذي لا يرى فيه إلا انعكاساً لرؤية المفسر، إذ قال دائماً بأن النص يكون موحياً وملهماً بقدر رحابة فكر قارئه، وصغيراً بقدر ضآلة هذا الفكر.

*   *   *

الولادة الثالثة

من هنا، من بلادنا، نحن أقلعنا

شراعاً، وموجةً، وليالي

ومشينا حرفاً على صفحة القلبِ

وحرفاً على شفاه السؤال





بقيام الحرب الأهلية في لبنان عام 1975، انقلبت حياة أدونيس جحيماً، فهاجر مع أسرته الصغيرة إلى باريس عاصمة النور بفرنسا، فكانت ولادة الشاعر المتجدد دائماً أبداً الثالثة.

قل لنا يا لهب الحاضر

ماذا سنقول؟

مزق التاريخ في حنجرتي

وعلى وجهي امارات الضحية

ما أمرّ لغة الآن ...

وما أضيق باب الأبجدية

كانت فرنسا، صاحبة أعظم ثورة في تاريخ العالم الحديث، تموج خلال السبعينيات بتيارات فكرية راديكالية، كان لها أعظم الأثر في تطور الفكر الغربي وازدهاره فيما يتعلق بالإنسانيات والعلوم الاجتماعية.

أتم لويس التوسير إعادة قراءة التراث الماركسي وتأويله تماماً، كما أعاد جاك لاكان بعث مدرسة التحليل النفسي لسيجموند فرويد، وحقق كل من ميشيل فوكو وجاك دريدا قطيعة معرفية مع الفلسفة الغربية الكلاسيكية، لا تختلف كثيراً عن القطيعة المعرفية التي طالب بها مفكرنا أدونيس.

استقبلت باريس الشاعر العربي الكبير لما هو أهل له من التكريم، فترجمت أهم أعماله إلى الفرنسية، ومنها إلى الإنجليزية والأسبانية والألمانية، ففرضت حضوره الخاص عالمياً، وأقامت ندوات خاصة لدراسة شعره، ودعته لإلقاء سلسلة من المحاضرات بالكولاج دي فرانس، كما احتفى ما يطلق عليه "بيت الشعر" في باريس بإقامة شهر تكريمي احتفالاً بظهور الترجمة الفرنسية "لأغاني مهيار الدمشقي"، حيث كان له أعظم الأثر في الأوساط الشعرية والثقافية الفرنسية.

وهب أدونيس – أطال الله في عمره – ما يقرب من قرن من العطاء الشعري والفكري لأمته العربية، ويبقى السؤال الهام – هل الشعوب العربية، والنخبة الفنية، قادرة على فهم وتَمَثُّل قيم الحداثة والإلهام لشاعر أسطوري بحجم أدونيس؟







بيروت، فبراير 2022 

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

Article المقال ( Septembre )

Article المقال ( Octobre )

Article المقال ( Septembre )