Article المقال (Fevrier)





   أدونيس ... شاعر الحداثة الأسطوري 

1/2 



بقلم : أ.د. عصام الدين فتوح

أستاذ الأدب الإنجليزى – قسم اللغة الإنجليزية وآدابها

كلية الآداب

جامعة الإسكندرية






 

أنا لا أكتب القصيدة

ولكن القصيدة تكتبني

 

يعتبر أدونيس ظاهرة أدبية وفكرية متميزة عربياً وعالمياً لحياة مبدعة وهبها للشعر، بالإضافة إلى ريادته للشعر العربي الحديث، والترويج له وممارسته تطبيقياً فيما يزيد عن عشرين ديواناً، يعتبر كل منها إضافة شعرية، شكلاً ومضموناً، لتراث شعري عظيم، يمتد من عصر ما قبل الإسلام إلى يومنا هذا.

وهذه المكانة العالمية المتفردة، لم يصل إليها في القرن العشرين سوى جبران خليل جبران (1883-1931)، وخاصة في تحفته الأدبية "النبي" (1923)، والتي نافست أشعار شيكسبير، وتلقفها العالم الغربي بالاحتفاء والتقدير. وبالإضافة إلى ذلك الإنجاز الشعري الفذ الذي تأثرت به ثلاثة أجيال على الأقل، طواقة إلى تحرير اللغة الشعرية العربية من القوالب الجامدة بإلغاء النموذج الجاهلي، بفهمه المحدود لمفهوم الشعر، وعلاقته بالتاريخ والحضارة، محققة نقلة نوعية إلى فلسفة عصرية تواكب الحياة في النصف الثاني من القرن العشرين، فيجدد أدونيس علاقة الأدب بالثورة، ويتطلع إلى خلق ثقافة ثورية حرة، ترنو للتحرر من فكر ثيوقراطي عشائري متزمت، وتساهم في بناء إنسان عربي حديث، قادر على الإبداع والمساهمة في خلق حضارة إنسانية رحبة، تستشرف المستقبل.

يرتبط اسم أدونيس بالأدب العربي الحديث، شعراً ونثراً، ممارسة وتنظيراً، من منطلق نقدي لأهم إنجازات الشاعرين ت.س. إليوت، الذي تجنس بالجنسية البريطانية، والشاعر والناقد الأمريكي الكبير عزرا باوند، مع فروق جوهرية في الرؤية، والعلاقة بالتراث الأدبي، والتشجيع على التجريب اللغوي في الألوان الأدبية المختلفة.





أصدر أدونيس كتابه العمدة "الثابت والمتحول" (1973) الذي كان – وما يزال – يمثل نقطة فارقة في تاريخ الفكر العربي، قد لا يضاهيها إلا الإنجاز المتفرد لأعمال محمد الجابري في دراسته للعقل العربي، بينما استلهم إليوت التراث الأدبي الأوروبي الممتد إلى دانتي، ورأى في الحركة الرومانسية نوعاً من الهرطقة الفنية، فقد غلب الاتجاه المحافظ وهيمن على أغلب ما كتب من نقد أدبي، وارتكز فيه على ثوابت دينية أمدته بها الكنيسة الإنجيلية التي اعتنق مذهبها، مما قد يفسر رجعية الحداثة الإنجليزية ومحافظتها، وإيمانها (انحيازها) إلى حضارة أوروبية المركز Eurocentric، وقد يفسر هذا أيضاً – بكل أسف – توجهات أستاذه وصديقه عزرا باوند، التي أودت بالأخير إلى اعتناق النازية، ومن ثم إلى مستشفى الأمراض العقلية، اتقاءً لمصير أكثر سوءاً.

رأى أدونيس – في المقابل – ونادى كمفكر وناقد، بضرورة فصل الدين عن الدولة، وإعادة قراءة التراث الأدبي العربي من منظور تقدمي، نادى بتحرير المرأة والعمل على خلق ثقافة وسياسة اشتراكية تستهدف الإنسان الفرد، لا الجماعة ولا الملة ولا العرق، إذا كان للعروبة أن تتحرر من لغة خطابية، لم تؤد إلا إلى النكبات والنكسات التي هيمنت على الواقع العربي في القرن العشرين.

*    *     *

2. ولدت لأكون شاعراً

ذلك الطفل الذي كنتُ، أتاني

ولد علي أحمد سعيد أسبر، الذي اشتهر بأدونيس، عام 1930، بقرية القصّابين بغرب سوريا، لعائلة قروية صغيرة تشتغل بفلاحة الأرض، فلم يعرف الطفولة قط، بل عاش حياة من التقشف، مساعداً والده في العمل بالأرض، وحُرِمَ من التعليم النظامي.

ارتبط الطفل بالأرض والينبوع والخضرة التي رأى في والدته الفلاحة الأمية تجسيداً لها. حفظ القرآن في الكُتّاب في سن مبكرة، شأنه شأن الكثير من أدباء العرب، وأولع منذ نعومة أظافره بجلال اللغة العربية وعظمتها، وبدأ يردد أبياتاً من الشعر العربي القديم، حرص على اكتسابها وحفظها من خلال والده، ذلك القروي البسيط المثقف، ذو الميول الصوفية التي أورثها ذاكرة، بل وكيان الطفل، الذي ربط في مخيلته إيمانه باللغة، مدركاً أن مصيره ومستقبله سيرتبطان لا محالة بهذا العشق للكلمة، والقدرة الأصيلة لتطويعها كوسيلة وغاية تمكنه من الانتقال من ذلك العالم الضيق، المحدود فكرياً وثقافياً واجتماعياً، إلى عوالم أكثر رحابة تتيح له تحقيق ذاته، والمساهمة الفعالة في خلق مستقبل أكثر عدالة، متطلعاً أبداً إلى المزيد من الحرية والرفاهية، ليس لقريته فحسب، بل للعالم أجمع.

استقبلت قرية القصابين زيارة مفاجئة لأول رئيس سوري لتلك القرية النائية. وأدرك الطفل – ببصيرته النافذة – الأهمية الخاصة لتلك الزيارة، فقرر، على الرغم من معارضة والده الأولية، أن يقوم بكتابة قصيدة من نظمه، وإلقائها تحية للرئيس.

أعجب الرئيس شكري القواتلي، تماماً كما توقع الطفل الطموح، بالقصيدة وطلب مقابلته، مشجعاً إياه، ومستجيباً لأي مطلب للطفل الواعد. فحقق الرئيس بالفعل أمنية الطفل أن يستكمل دراسته بمدرسة رسمية، فألحقه بمدرسة الليسيه الفرنسية بطرطوس.

وأظهر الشاعر، الذي كان قد بدأ بالفعل في كتابة بعض قصائده ونشرها، نبوغاً دراسياً، أهله للحصول على منحة حكومية للإلتحاق بالجامعة السورية لدراسة القانون والفلسفة، حيث حصل على درجة الليسانس عام 1954. وانضم الشاب المثالي إلى الحزب القومي السوري، المنادي بخلق مجتمع عادل تقدمي، يحترم جميع مواطنيه، دون اعتبار للعرق أو الأصل أو الدين. ثم ألقت السلطات القبض على الشاعر، الذي قرر بعد ما يقرب من السنتين أمضاها متنقلاً بين السجون، أن يعبر الحدود من سوريا إلى لبنان، التي مثلت الميلاد الثاني لأدونيس.

*   *   *

3. الميلاد الثاني لأدونيس

والآن ...

حيث تتناسل ألف ليلة وليلة وتختفي بثينة وليلى

حيث يسافر جميل بين الحجر والحجر، وما  من أحد يحظى بقيس

لكن،

سلامٌ لوردة الظلام والرمل

سلامٌ لبيروت

كانت لبنان بمثابة الحاضنة الطبيعية لموهبة الشاعر الشاب، فلبنان تتمتع بطبيعة خلابة، بجبالها ووديانها وأنهارها، وانفتاحها على الغرب عن طريق البحر الأبيض المتوسط، إضافة إلى تاريخها الممتد لآلاف السنين، التي امتزج خلالها الواقع بالأسطورة، واكتسبت الآلهة طباعاً إنسانية، علاوة على تعددية ثقافية، اثنياً ولغوياً ودينياً، مما خلق مساحات للحوار، ندر أن توجد في أي بلد عربي آخر. ولعل هذا التنوع الثقافي شجع على تنوع المنابر، وازدهار الطباعة، وحركة الترجمة، وجعل من بيروت عاصمة ثقافية فريدة من نوعها، منفتحة على مختلف الأطياف السياسية، من اليمين الرجعي إلى اليسار التقدمي، ومعملأ للتجارب الأدبية المختلفة، من أصولية إلى حداثية وتجريبية.

ساهمت مجلة "الشعر"، التي تعاون أدونيس في تأسيسها مع الشاعر اللبناني يوسف الخال (1916-1987)، وزوجة أدونيس السيدة خالدة سعيد، الشاعرة والناقدة، لتصبح منبراً لأهم شعراء الحداثة، من أمثال نازك الملائكة (1923-2007)، وبدر شاكر السياب (1926-1964)، ومحمود درويش (1941-2008)، والماغوط (1934-2006)، وآخرين، بحيث أصبحت تعد الفاصل الحاسم بين الشعر التقليدي والشعر الحديث على مستوى العالم العربي.

رحبت المجلة بقصيدة النثر، وكان أدونيس أول من أطلق عليها هذه التسمية، والتي قوبلت بالرفض التام من جانب الشعراء والنقاد التقليديين، أو حتى مجرد الاعتراف بها كنوع أدبي ينتمي إلى عالم الشعر، والتي أطلق عليها بعض النقاد المتعاطفين اسم الشعر الطلق أو الشعر المنثور، قبل أن يضفي عليها أدونيس في مجلة "الشعر" أول اعتراف رسمي بها واعطائها بعداً تنظيرياً، متأثراً إلى حد كبير بالنقد الأوروبي المعاصر.

واتخذت المجلة لنفسها دوراً سجالياً، محرضةً على الكتابة الإبداعية من جهة، رافضةً أشكالاً تقليدية، وقيماً شعرية بعينها، ومطالبةً بأهمية إعادة النظر في الموروث النظري للشعر العربي، وربطه بواقع معيشي معاصر، لا يستند إلى مجرد الانفعالات والانطباعات، بل يعبر عن تطلعات واستشراف للمستقبل، ومنفتح على الحوار مع الآخر حضارياً وفنياً.

انسحب أدونيس من هيئة تحرير مجلة "الشعر"، بعد أن دبت الخلافات، واختلفت الرؤى، بين محرريها الأساسيين. واستكمل أدونيس العمل الدؤوب في مجلتي "آفاق" و"الآخر"، اللتين اعتنتا بتأصيل الفكر السياسي والفلسفي العربي التقليدي ومساءلته، والاشارة بجسارة إلى ارتباط المؤسستين السياسية والثقافية فكرياً وعقائدياً بقوالب جامدة، جعلت من الفكر سجناً ضيقاً، يحول دون انطلاق الشخصية العربية بالتعرف على الآخر، امرأة كانت، أو مختلفٌ عرقياً أو دينياً، عن المؤمن المحروم من حق المراجعة أو التجديد، أو حتى القاء الأسئلة.

من الصعب، بالطبع، تقييم تلك الاسهامات المتعددة في الثقافة العربية دون أن نسجل ما أثارته من حنق وحملات تشهير وتكفير في مناخ ثقافي آسن ومتحجر، ساهمت المجلتان، ولو بقدر قليل، في زعزته، واثارة بعض الشكوك في ثقته المتناهية، بصلابة موقفه وإمكانية زحزحته واعترافه بالآخر.

ونواصل رحلة أدونيس الإبداعية في اللقاء القادم، بمناقشة عمله الموسوعي النقدي "الثابت والمتحول"، ثم انتقاله من لبنان إلى فرنسا، بعد نشوب الحرب الأهلية اللبنانية. 


*   *   *





Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

Article المقال ( Septembre )

Article المقال ( Octobre )

Article المقال ( Septembre )