المقال Article ( Décembre )





 مقال بعنوان



غياب الضمير

 

بقلم  

دكتور/ محمد مصطفي محروس




 

1. يعتبر المصريين أول من أصل للأخلاق والضمير في التاريخ البشرى، إلا أن ما حدث للمصريين الآن يؤكد أن هذا الضمير قد توارى وغاب لأسباب مجهولة، ويدفع المصريون جميعًا ثمن هذا الغياب خسائر اقتصادية واجتماعية وثقافية، وفنية، وعلى كافة المستويات، فمثلاً الخسائر الاقتصادية جراء انخفاض إنتاجية العامل المصري تقدرها بعض الدراسات بـ1.5 تريليون جنيه، فإن الخسائر الأخرى الناجمة عن انعدام الضمير في كافة مجالات الحياة لا تقدر بالمال إنما يدفعها المجتمع كله من أمنه وسلامته ورقيه وتحضره.

2. فلقد عرف علماء الاجتماع الضمير بأنه قدرة الإنسان على التمييز بين الخطأ والصواب، أو بين الحق والباطل، فقد توصل المصريون لهذا المفهوم قبل ظهور علم الاجتماع بسنوات طويلة، إلا أنهم فقدوا البوصلة وغاب هذا الضمير في كل المجالات، التعليم، الصحة، الإدارة، الإنتاج والإعلام، وكذلك الفن حتى أصبحنا شعباً لا ينتج، ويستغل كل واحد فيه الآخر ولا يرى أنه يخطئ، ولا يراعى ضميره في عمله ولا علمه ولا حتى في تربية أبنائه، والنتيجة مجتمع واهٍ لم ينجح في الحفاظ على حضارته وتاريخه ولا خلق مستقبلاً حقيقياً، رغم أنه يمتلك مقدرات تجعله في مصاف الدول العظمى.

3. ورغم اختلاف الفلاسفة وعلماء النفس والاجتماع في تعريفاتهم للضمير، إلا أنهم اجتمعوا على أنه نابع دائماً من مسئولية الإنسان تجاه المجتمع الذى يعيش فيه، إلا أن علماء العلوم الإنسانية وعلم النفس والأعصاب عرفوا الضمير بأنه: "وظيفة من وظائف الدماغ التي تطورت لدى الإنسان لتسهيل الإيثار المتبادل"، كما عرفوه بأنه: "مجموعة من المشاعر والأحاسيس والمبادئ والقيم التي تحكم الإنسان، ليكون سلوكه جيدا معهم"، أي أنه: "هو ميزان الحس والوعى عند الإنسان لتمييز الصحيح من الخطأ مع ضبط النفس لعمل الصحيح والبعد عن الخطأ".  

4. فغياب الضمير يعتبر هو السبب الأول لانتشار الرشوة والفساد في كل المصالح الحكومية تقريبا، وإذا كان البعض يتعلل بضعف الأجور كسبب لانتشار هذه الجريمة، إلا أن وقائع الفساد التي كشفتها هيئة الرقابة الإدارية مؤخرا وتورط فيها محافظون ووزراء ونواب ومستشارون ورجال أعمال بالعديد من الوزارات والهيئات، هي أكبر دليل على أن الضمير الغائب هو السبب الأول في انتشار هذه الجريمة، التي أضرت بمصر حتى احتلت المركز 108 بين 179 دولة في مستوى الفساد وفقا لتقرير مركز الشفافية الدولي الصادر في العام الماضي.

5. فقد شهد عام 1883 صدور أول نص قانوني لتجريم الرشوة، والصادر بقانون العقوبات الأهلي وقتها، وبعدها استمر النص في قوانين العقوبات المختلفة على هذا التجريم الذى تصل عقوبته للسجن لمدة تتراوح بين 3 و10 سنوات، ومع انتشار الرشوة وتقنينها في كل مكان بدأ المصريون يبحثون عن مسميات أخرى لها، فظهرت عبارات «كل سنة وأنت طيب يا بيه» و«فين الشاي؟» و«الحلاوة»، وكلما تطورت لغة الحوار في المجتمع تطورت معها المسميات، ففي فترة السبعينات ودخول مصر عصر الانفتاح الاقتصادي ظهرت عبارة فتح دماغك أو فتح مخك، وعبارة أصبر وهظبطك، ومع نمو لغة الخطاب الديني في الثمانينات ظهرت عبارة النبي قبل الهدية، ومع دخول مصر عصر «الروشنة» في التسعينات ظهرت عبارة «أبجني تجدني» ومع تدهور لغة الخطاب في الشارع أكثر في الألفية الجديدة ظهرت عبارة «كرمش له 50 جنيه»، وغير ذلك الكثير من المسميات والعبارات.

 

6. هذا بخلاف أن هناك مهن إذا غاب عنها الضمير تحولت إلى كارثة بكل المقاييس، والطب إحدى هذه المهن، فقد حولها الضمير الغائب من مهنة إنسانية مقدسة إلى جريمة ترتكب في حق الإنسانية، فكم من الأرواح تزهق بسبب غياب الضمير الطبي، وكم من الأرواح تقهر لنفس السبب، بالإضافة إلي المخالفات الهندسية في الإنشاء للعقارات التي أصبحت ظاهرة غير طبيعية من حيث عدم الأمان، وتسليم الوحدة السكنية بخلاف المتفق عليه، وأصبح الجميع يحاول سرقة الجميع.

7. كذلك عصابة الإتجار في الأطفال التي تم إلقاء القبض عليها بمنطقة الهرم منذ فترة تشير إلى ما وصل إليه الحال من انعدام الضمير في هذا القطاع، حيث ألقى القبض على عدد من القوادين الذين يقومون ببيع الفتيات الصغيرات للأثرياء العرب خلال شهور الصيف، وتبين تورط بعض الأطباء معهم في بيع الأطفال نتاج هذه العلاقات غير المشروعة لأثرياء آخرين.

8. إلا أن هناك غول الفساد الأكبر وهو مراكز الدروس الخصوصية، والتي تلتهم أغلب مدخرات الأسرة والتي توفرها الأسر المصرية من قوت يومها لتدفعها لمعلمين غابت ضمائرهم لتحل محلها رغبة متوحشة في الثراء السريع، دفعتهم إلى إهمال رسالتهم السامية وتفرغوا لجمع الأموال في مراكز الدروس الخصوصية، ورغم أن وزارة التربية والتعليم تقوم كل فترة بالتعاون مع المحليات بمهاجمة هذه الأوكار وإغلاقها، إلا أنها سرعان ما تعود للعمل من جديد، حيث أن حجة المدرس أنه لا يستطيع أن يشرح لتلاميذ في الفصل عددهم 70 أو 80 تلميذ في حين أنه يقوم بالشرح في مركز أو سنتر لحوالي 200 أو يزيد بكل أريحيه، ولا يشتكي من العدد مطلقاً.

9. ولذا فحالة الانهيار التي يعانيها المصريون ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا قد أثرت في ضميره، ورحنا نتحدث عن الرشوة باعتبارها إكرامية، والفساد واسطة أو محسوبية، والبلطجة وجدت من يعتبرها قوة وشجاعة، ونجومية وانعدام الضمير  في العمل أصبح فهلوة، وسادت مفاهيم «على قد فلوسهم» و« هي جت على» و«ملك الحكومة» لتصبح أبواباً سرية للتهرب من المسئولية وعدم مراعاة الضمير في العمل، حتى أصبح من يراعى ضميره في عمله كالقابض على الجمر، وراح كل شخص يلقى بالمسئولية على الآخرين على اعتبار أنهم فسدة، بينما هو الوحيد الذى يراعى ضميره، وتخلى عن محاسبة ذاته، مع عدم وجود قواعد صارمة لمحاسبة أي فرد والأبواب الخلفية للتلاعب بالقوانين، كلها كانت محفزات لانهيار الضمير بشكل عام في مصر حتى وصلنا إلى ما نحن عليه في كل المجالات بكل أسف.

10. وعلي هذا فأن الضمير يجب يغرس في الإنسان من خلال الإيمان والتربية على السواء، فالضمير ليس شيئًا ملموسًا ولكنه يعنى مراقبة الله ومراقبة القيم والأخلاق قبل الإقدام على فعل أي شيء، وهو صناعة يقوم بها الناس من خلال التربية والسلوك الحسن والإيمان بالله، فالإنسان يتعلم أن هناك رقابة إلهية عليه، وهذا أول درس يجب أن يزرع في الطفل أن يراعى الله في كل تصرفاته فان لم تكن تراه فانه يراك، وعليه أن يتعلم أن يسير على هذا النهج طوال حياته ولا يحيد عنه، فهذه القاعدة جاء بها كل الأنبياء وهى مراعاة الله في كل فعل لأننا سنحاسب عليها، فالملائكة يدونون كل ما يفعله الإنسان في حياته، ويحاسب عليه يوم الحساب، ولذلك لا بد من التركيز في تربية النشء على أن نعلمهم أن الله موجود في كل مكان وهو يرانا، لذلك يجب أن نراعيه في كل أفعالنا، فهذا المنهج مفيد للفرد والمجتمع على السواء، ولو سار به كل إنسان فستختفى كل الموبقات من المجتمع تماما.

 

 


Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

Article المقال ( Septembre )

Article المقال ( Octobre )

Article المقال ( Septembre )