Article المقال ( Octobre )






قراءة انطباعية عن رواية التاج

 

 

بقلم : يوسف نبيل

روائى و مترجم

 

 






"كيف لا يرى الحكام أن السلطة ليست وحدها تعبيرًا عن الوطن بل الكادحين والمشردين والسذج، الوجوه مخفية الملامح في الخلفية الكبيرة الباهتة لوجه كبير باسم."

لأسباب عديدة يتطرق الوسط الأدبي من حين لآخر إلى موضوعات بعينها؛ فنجد مثلا  عددًا كبيرًا من الأعمال تناول موضوع التصوف بعد ثورة 2011، وفي الأعوام الأخيرة نجدد عددًا لا بأس به من الكتب الأدبية والتاريخية يتناول عصر المماليك. لهذه الظاهرة أسباب تتعلق بطبيعة المرحلة التي يعيشها الناس داخل ظروف اجتماعية واقتصادية وثقافية معينة، ولا تشكل هذه الظاهرة عيبًا في حد ذاتها، ولكن الإشكالية هي أن تتحول إلى نوع من "الموضة" ومن ثم نجد الكثير من هذه الأعمال دون المستوى غالبًا، تتناول تيمات متكررة دون أي تأصيل أو تعمق في فهم الظاهرة محل الدراسة.

رواية التاج، وهي الرواية الأولى للدكتورة عبير قورة، والصادرة عن دار الأدهم، لا تنتمي إلى هذه النوعية. صحيح إنها تناولت موضوعًا تكرر ذكره كثيرًا في الفترة الأخيرة "عصر المماليك" ولكن يمكن للقاريء منذ الصفحات الأولى أن يدرك أنه يقرأ عملا متفردًا، وغريبًا من أوجه كثيرة.

تبدأ الرواية بمشهد صادم للغاية، دموي وعنيف إلى أقصى حد، حيث يتم إغراء أحد الرجال بداعرة. يتتبعها حتى يجد نفسه بين يدي عصابة شرسة تقتله وتقطعه إربًا وتلقي به في فرن، ثم تُكتشف الجريمة إثر بعض التداعيات ويتم القبض على رجال العصابة. هكذا كانت البداية في عصر المماليك، ثم نجد أنفسنا في الفصل التالي في حكاية أخرى تدور في العصر الحديث. الموضوع الرئيس – أو هكذا يمكن أن يتصور القاريء في البداية أو توهمه الكاتبة في مقدمتها – هو تتبع رحلة عائلة التاج، والرحلة تنقسم إلى شقين: 21 فصلا يتناول فصولا وشخصيات مختلفة من العائلة إبان سنوات بعينها في حكم المماليك، و 21 فصلا آخر يتناول قصص شخصيات من العائلة ذاتها في الوقت المعاصر. اعتبرت شخصيًا أن كل هذا مجرد خدعة؛ فإذا تجاهلنا صلات القرابة بين الشخصيات في الرواية لن نجد شيئًا بعينه يجمعها، وإذا تجاهلنا أنهم جميعًا ينتمون إلى عائلة واحدة لن نفقد شيئًا تقريبًا. قد يكون مصدر الإرباك هو محاولة تتبع تاريخ قرابة الشخصيات وعلاقاتهم ببعضهم بعض؛ الأمر الذي بدا لي غير مهم تقريبًا في الرواية، لأنها شيِّدت بطريقة عجيبة جدًا.

أول ما يلفت النظر في بنية الرواية هو عدم الارتباط الظاهري بين الخطين السرديين: عصر المماليك  - العصر الحالي. أفترض إنني إذا أعدت قراءة كل خط سردي بمفرده سيشكل رواية كاملة غير منقوصة يمكن أن تُطبع في الأسواق بعنوان مختلف. الانفصال يبدو كاملا، من حيث تكامل كل رواية بقضاياها وشخوصها وتكنيكها ولغتها.

الأمر الآخر الذي يلفت الأنظار هو القدرة اللغوية المبهرة في العمل. يتميز بعض الكتّاب أو الكاتبات باستخدام لغة جميلة، رائقة، وبعض الكتاب يتميزون بلغة وظيفية بحتة، متقشفة أحيانًا كما هي عند البساطي مثلا، لكنها دالة جدًا. هذه الرواية  هي درس في طريقة استخدام اللغة، بل هي درس مبهر؛ حيث تجتمع الاستخدامات الوظيفية والجمالية، ويتم الانتقال بينها بفهم ويسر. بذلت الكاتبة مجهودًا هائلا في التوصل إلى لغة معينة تكون مناسبة لعصر المماليك، فاستخدمت في الحوار عامية مليئة بالألفاظ التي وردت في المراجع التاريخية العديدة التني تناولت هذه الفترة. في نهاية كل فصل يتناول الفترة المملوكية ثمة حواشي تبين معاني الكلمات القديمة التي استُخدمت في هذا الفصل. شخصيًا أرى أن التوفيق حالفها في هذا الاستخدام بدرجة كاملة، حيث نجحت في إقناعي كقاريء بإنني أسمع لغة الناس فعلا في هذا العصر، ورغم غرابة بعض الألفاظ إلا إنها في النهاية قريبة من قاموسنا اللغوي بشكل أو بآخر، ويمكن توقع معناها دون حتى اللجوء إلى الحواشي. الأمر الآخر هو اللغة الدامية والعنيفة التي استخدمتها في فصول المماليك، واللغة الناعمة والشاعرية في بعض المواضع التي استخدمتها في فصول العصر الحالي. هذا الانتقال المفاجيء؛ خاصة بعد البداية الدموية، يؤكد لك كقاريء منذ البداية عدم جدوى البحث عن ارتباط مباشر بين الخطين السرديين.

في الخط المملوكي نجد أحداثًا دامية تتناول أحوال المصريين في عصر سيطرت عليهم فيه بعض العصابات. نجد تركيزًا أيضًا في أكثر من فصل مملوكي على المذابح التي تعرض لها الأقباط في هذا العصر. أظن إن كاتبًا مسيحيًا لم يكن ليجرؤ على كتابة مثل هذه المشاهد، وتؤكد الكاتبة في أكثر من حديث على تاريخية هذه المشاهد المذكورة في مراجع عديدة. نقرأ في الرواية عن تعذيب الأقباط وتحويل بعضهم قسرًا إلى الإسلام وسط أجواء عامة يتعرض فيها الجميع لظلم ممنهج، حيث لا وجود لأي قانون، ولكن بطبيعة الحال تتعرض الأقلية الدينية لقطاع أكبر من هذا الظلم. تتناول الفصول المملوكية قصصًا عديدة عن مختلف الفئات، وتتضمن بعض القصص والمشاهد المبهرة مثل الفصل المتعلق بفاطمة الدميانة مثلا؛ الطفلة المسيحية التي قُتل والديها وتبناها أحد القتلة وصارت مسلمة تقية، تراودها أحلام قديمة عن هذه المذابح حتى تكتشف حقيقة أصلها القبطي في النهاية، لكنها تتصالح معه وتظل على تقواها الديني كمسلمة.

بالتوازي مع هذه الفصول المملوكية التي تبدو لنا ككاميرا فوقية ترصد لنا طبيعة العلاقة بين السلطة والجمهور في هذه الفترة نقرأ قصصًا مختلفة لأفراد عائلة التاج. تتناول هذه الفصول المعاصرة قصص أكثر من شخصية وقضايا أخرى تبدو مختلفة ظاهريًا، حيث نقرأ فيها عن اضطهاد الأب لابنه، وعن فساد أساتذة جامعة، وعمليات بيع أراضي زائفة وعلاقات شائكة بين أفراد أسرة التاج وعلاقات حب، والانخراط في الفن والجمال وطبائع مختلفة لشخصيات تتشكل وسط ظروف ضاغطة. لن أعيد هنا حكاية أحداث القصص، لكني أشير إلى اللغة الرائعة والمشاهد الرائعة التي رصدتها الكاتبة في حياة أسرة التاج المعاصرة.

السؤال الذي ظل يراودني طوال قراءة هذه الرواية: ما العلاقة بين الخطين السرديين؟ لا شيء وكل شيء. ليست هناك علاقة مباشرة بين الخطين، لأنني كما ذكرت أن تتبع أفراد عائلة التاج كان من وجهة نظري مجرد حيلة سردية لسرد هذه القصص والخوض في قضايا معينة. لكني أقول إن العلاقة بين الخطين من جانب آخر هي كل شيء لأن الكاتبة مهمومة في الأساس بتتبع العلاقات الأساسية التي تحكم العلاقات الاجتماعية في مصر عبر فترتين تاريخيتين مختلفتين. صحيح إننا لم نعد نعيش الآن في عصر عصابات المماليك لكن هناك عصابات من نوعية أخرى، وهناك التباسات أيضًا في مفهوم الهوية، وهناك اضطرابات أيضًا فيما يتعلق بالعلاقات بين المسلمين والمسيحيين، وهناك صنوف عنف أخرى. الكاتبة إذن مهمومة بقضية عامة تتعلق بتشكل الشخصية المصرية والسياقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي ترافق هذا التشكل، فهل نجحت هذه الحيلة السردية لسرد روايتين متكاملتين بشخوصهما وقضاياهما ولغتهما؟

هذا سؤال أتركه للقاريء، وأظن إن الإجابة ستختلف من شخص للآخر، ولكن الأمر الذي لا شك فيه أن هذه التقنية في حد ذاتها تفصح عن موهبة جبارة، وإن الخط المملوكي يمثل نقلة نوعية في طريقة استخدام اللغة؛ خاصة في الحوار الذي يتضمن لغة قديمة. نحن أمام موهبة جبارة؛ ولا يمكنني شخصيًا تصديق أن هذه هي المحاولة الروائية الأولى للكاتبة.

لا يسعني في النهاية سوى الإعراب عن إجابي الشديد بالعمل، الذي أظنه واحد من أهم الأعمال التي قرأتها في الفترة الأخيرة. 

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

Article المقال ( Septembre )

Article المقال ( Octobre )

Article المقال ( Septembre )