Article المقال ( Juillet)



 




Ñ   إدوارد سعيد ... الثقافة والإمبريالية     Ò

(6/6)



بقلم : أ.د. عصام الدين فتوح

أستاذ الأدب الإنجليزى – قسم اللغة الإنجليزية وآدابها

كلية الآداب

جامعة الإسكندرية




 

 تناول كتاب إدوارد سعيد "الثقافة والإمبريالية" (1993) العلاقة العضوية بين النظام المعرفي والسلطة القاهرة (knowledge and power)، كأساس لما عُرِفَ بالاستشراق كما تناوله سعيد، وقام بتفكيكه. وقد تابع سعيد تلك الدراسة الأصيلة بالنظر نقدياً إلى الرابطة ما بين الفكر الإمبريالي من جهة والحضارة الغربية عامة، كما تجلت تاريخياً في الفكر السياسي والفلسفي والأدب الغربي، (والإنجليزي على وجه التحديد) خلال القرن التاسع عشر.

عرّف الأديب والمفكر الإنجليزي الشهير ماثيو أرنولد (1822-1888) الحضارة على أنها أعظم ما قد وصل إليه الفكر الغربي، من أدب وفلسفة. ومن خلال مثل تلك المقاربة تناول الغرب مشروعه الاستعماري للتوسع والهيمنة على مصائر الشعوب "المتخلفة"، من منظور شبه ديني لمهمة مقدسة ألقيت على كاهله، لتحرير مثل ذلك العالم "المتخلف" حضارياً وإنسانياً، والارتقاء به بما أوتي من حكمة وقدرة تجعل من الاستعمار تنفيذاً لإرادة إلهية للارتقاء بالبشرية جمعاء، ومحاربة التخلف أينما وجد.




يستشهد سعيد في بداية دراسته بالكاتب الروائي الإنجليزي (البولندي الأصل) جوزيف كونراد، الذي تناول إشكالية الاستعمار في العديد من رواياته مثل رواية "قلب الظلام" Heart of Darkness (1899) ورواية "نوسترومو" Nostromo (1904)، حيث يقول: "عندما يسبر المرء فكرة اخضاع الأرض، يجد أنها ليست بالفكرة المغرية، فالمقصود منها في مجملها انتزاع الأرض من يد من اختلفت بشرتهم عن بشرتنا، أو كان أنفهم أفطس بعض الشيء عن أنوفنا، فما يشفع للفكرة سوى الفكرة وحدها". لا شك أن العنف المضمر بقوته الجبرية المتمثلة في العتاد والسلاح، قد يعرضها للنقد، وتأنيب الضمير، إلا أنها تجد تبريراً منطقياً في كتابات العلوم الغربية المتقدمة مثل الأنثروبولوجيا، والعلوم الاجتماعية، التي اقتنعت بتقسيم العقليات البشرية اثنياً على أساس عرقي، ورأت في العقل الهندي أو الصيني أو العربي علامة مؤكدة على البدائية والتخلف.

يمضي كونراد قائلاً: "ليس من وراء [الفكرة] ادعاء عاطفي، بل إيمان راسخ بتلك الفكرة، التي تتبلور إلى أن تتمكن من إقامة معبد لها، فتسجد أمامها، وتقدم لها القرابين". هذه الكلمات، لبطل الرواية كورتز، الذي أشبع السكان المحليين تمثيلاً وقتلاً، ما كان ليقترف تلك الآثام البشعة إلا بعبوديته المطلقة لصنم وثني صنعته وبشرت به مجموعة قيم ومبادئ أطلق عليها تعبير "ثقافة مهيمنة".




ومن المفارقات أن تنتمي مقولة جون ستيوارت ميل – المفكر الليبرالي الشهير – وصاحب المرجع السياسي "عن الحرية" On Liberty (1859)، إلى نفس تلك الحضارة العنصرية، إذ يتساءل عن سبب تواجد إنجلترا الاستعماري بالهند، قائلاً أن ذلك الاحتلال ما كان إلا لحاجة الشعب الهندي ذاته للارتقاء والتقدم بواسطة الإنجليز، الذين لم يروا في سيطرتهم على شبه القارة الهندية، إلا مجهوداً حضارياً فُرِضَ عليهم فرضاً، ستتقدم الهند عنه إليهم بأسمى آيات الشكر في المستقبل القريب.

مثلت الكتابات الأوروبية عن الهند وأفريقيا والشرق الأقصى ودول الكاريبي عنصراً حيوياً وأساسياً في المجهود الأوروبي العام للسيطرة على أراض وشعوب في بلاد نائية، تخضع لتوصيفات مثل الشرق الغامض، أو أفريقيا السوداء، إلخ، والتي ارتبطت بقهر تلك الشعوب البربرية، وكبح جماح تمردها، وعن طريق إنزال أشد أنواع العقاب، من الإعدام إلى السجن والتعذيب، كما تشهد المآسي التاريخية، مثل دنشواي في مصر، وقمع الثورات في الهند، والتنكيل البلجيكي في أفريقيا.




وبهذا المفهوم المتطور للثقافة، فلم يتردد سعيد في ادراج فن الرواية، متمثلاً بكتابات جين أوستن، وروديارد كيبلنج، وألبرت كامو، بل وحتى الأعمال الموسيقية الكبرى مثل أوبرا عايدة، التي كتبها الموسيقار الإيطالي فيردي للمشاركة في احتفالات افتتاح قناة السويس، والتي كانت سبباً غير مباشر في التواجد الاستعماري الإنجليزي في مصر بعد أقل من عقد من الزمان.

والواقع أن سعيد قد أشار من خلال تلك الدراسة إلى ظهور وانتشار ألوان من الحضارة، معادية للهيمنة الأوروبية، مما يمكن أن نطلق عليه "الحضارات المقاومة" التي تميزت بها أغلب حركات الاستقلال لمواجهة الفكر والفن المواكب لحركة الاستعمار السياسي والاقتصادي.

أزعج هذا الكتاب النقاد والعاملين في الموسيقى والفنون بصفة عامة، في زمن هيمن على الفكر النقدي نظريات النقد الجديد New Criticism، وهي تلك المدرسة التي كانت تحاول، دائماً وأبداً، رسم خطوط حمراء فاصلة بين الفنون الجميلة والواقع الجيوتاريخي، والواقع المعاش للعمل الفني، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بزمان ومكان وقوعه، وتداخله المباشر أو غير المباشر مع مختلف المؤسسات السياسية والاجتماعية التي تتحكم في السياسة والتربية والتثقيف، بل وحتى خلق الذوق العام.

يتجلى ظهور تلك الحضارات المقاومة في الأدب العربي، مثلاً في أشعار أدونيس، ومحمود درويش، وقصص وروايات غسان كنفاني، وفي كتابات نجيب محفوظ، ورواد الرواية المصرية من أمثال هيكل وطه حسين، ورواد المسرح من أمثال توفيق الحكيم، وفي آداب أمريكا اللاتينية في كتابات بورخيس وماركيز، والأفارقة من أمثال تشينوا أتشيبي، ووول سوايينكا، ونجوجي، والهنود مثل أرونداتي روي وسلمان رشدي.

وإذا كان الغرب في مؤسساته التعليمية، بأقسام اللغات والأدب المقارن، قد بدأ يستفيد خلال العقدين السابقين من هذه التجليات الأدبية والنقدية في هذا المرجع، فلا شك أن الأوان قد آن للنقد الأدبي العربي أن يعيد النظر إلى تراثه الفكري والأدبي، منذ بدايات القرن التاسع عشر وإلى الآن، في اغناء مفهومه الضيق للحضارة القومية كجزء لا يتجزأ من حوار – أو صراع – بين الحضارات، شاركت في صنعه والتنظير له حضارتنا بما له وما عليه.




 

بيروت، في 28/6/2021



Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

Article المقال ( Septembre )

Article المقال ( Octobre )

Article المقال ( Septembre )