Article المقال ( Juillet )







     المقال


 

مأساة المثقف ما بين الرهافة الشاعرية والثورية الدموية


يكتبها الدكتور إسحاق بندري


 

قراءة في المجموعة القصصية "سلاح الفرسان"

للأديب الروسي إسحاق بابل

ترجمة: يوسف نبيل  

إصدار دار آفاق للنشر ـ مصر ـ 2019 

 





في هذه المجموعة القصصية والتي تُعْرَف أيضًا بسلاح الفرسان الحُمْر ما يدهش القارئ ويثير انتباهه لتفرد أسلوبها السردي المكثف من ناحية, ولثرائها بالوصف الشاعري في مقابل قتامة وفظاعة أجواء الحرب من ناحية أخرى.




في العام 1920 التحق إسحاق إيمانويلوڨيتش بابل (1894 ـ 1940) بسلاح الفرسان الحُمْر كمراسل حربي إبان الحرب السوڨييتية الپولندية, وكتب يومياته عما عاينه في خضم الحرب في كتيبة القائد سيميون بوديني واستخدم مادتها في كتابة قصص سلاح الفرسان. إذ كان يريد أن يدون الحقيقة المجردة التي رآها بعينيه. فرغم إيمانه في البداية بالثورة البلشڨية, ورغم كل ما كانت تصدره أبواق الدعاية والبروباجندا السوڨييتية عن نبل قضية الحرب وبسالة المقاتلين القوزاق وتصويرهم بشكل ملائكي زائف, إلا إن إسحاق بابل لم يستطع أن يقوم بعملية تجميل خادعة لقبح الحرب وفظاعاتها, فجاءت كتابته تحمل جنبًا إلى جنب شاعرية الوصف لمشاهد الطبيعة البكر الغنية في مقابل بشاعة الحرب والقتل بدم بارد والتجرد من القيم والأخلاق بالجملة.

لاقت هذه المجموعة القصصية النجاح والإعجاب وتُرْجِمَتْ إلى العديد من اللغات, ولكن ما فيها من نقد مستتر وسخرية لاذعة وتوصيف حقيقي للأحداث جلب العداء لبابل, الأمر الذي انتهى باعتقاله وإعدامه بعد محاكمة صورية على اتهامات ملفقة في حملة التطهير الستالينية, بل وأُخفيت حقيقة إعدامه حتى العام 1953.

يشير المترجم الأستاذ يوسف نبيل في مقدمته إلى تلك العلاقة المعقدة بين المثقف والسلطة الشمولية التى لا ترضى منه حتى بالصمت ولا تقبل إلا بالخضوع الكامل لها وبيع الضمير والمبادئ الأخلاقية. كما يلفت النظر إلى تحليل نفسية أصحاب الشخصيات السادية التي لا تقدر على الحب بما قدمه عالم النفس إريش فروم في استشهاده بمجموعة سلاح الفرسان لشرح أبعاد الرغبة المقيتة للولوج لأعماق الإنسان من خلال التحكم فيه بممارسة سلطة كاملة عليه تعمد إلى إذلاله وإجباره على فعل ما يريده الشخص السادي.




تُعْتَبَرُ مجموعة سلاح الفرسان نموذجًا مبكرًا للمتتالية القصصية, إذ تشمل العديد من الشخصيات التي يتكرر ظهورها في الأحداث, فضلاً عن أنها تأتي كلها على لسان الراوي المتكلم ـ الشريك في نفس الأحداث ويظهر باسم ليوتوڨ, والذي يبدي إعجابه أحيانًا ببسالة المقاتلين القوزاق من لا يخشون الموت, لكنه لا يخفي تقززه من وحشيتهم وتصفيتهم لأعدائهم ببرود واغتصابهم للنساء وانعدام حسهم الأخلاقي مع الأسرى والسكان المحليين المسالمين, فاهتمامهم ينصب على الخيول والقتال والنساء فقط, إذ كانوا يعتبرون التحلي بالأخلاق من مخلفات العصر القيصري البائد.

والنقطة الأخطر التي يرسمها بوضوح هي احتقار هؤلاء المحاربين القوزاق للمثقفين والمتعلمين وخريجي الجامعات فكانوا يهزأون بهم ويصفونهم بذوي النظارات. فبعد الثورة البلشڨية تقلص دور المثقفين من أصبحوا موضعًا للريبة والشك, مقابل تصاعد دور العمال والفلاحين في كوادر المجتمع الاشتراكي الجديد. فيبدو ليوتوڨ مغايرًا عنهم بسبب ثقافته وحسه الأخلاقي واستنكاره للقتل والعنف, حتى محاولاته لكسبه ودهم والتواءم معهم لإثبات أنه مقاتل يمكن له القتل والبطش لا تنجح في تنحية ضميره وإنسانيته.

ففي قصة "إوزتي الأولى" يتعرض لاستهزاء قائد الكتيبة وإساءة المعاملة من بقية القوزاق وإلقائهم لأغراضه وترفض السيدة العجوز صاحبة السكن تقديم الطعام له, فلا يجد حلاً سوى في دهس عنق إوزة ليثبت لهم أنه قاسٍ مثلهم وليجد طعامًا أيضًا. بينما في قصة            "موت دولجوشوڨ" لا يستطيع أن يجهز على دولجوشوڨ المصاب بجروح مميتة وينفذ له طلبه بأن يطلق عليه رصاصة الرحمة, في حين يتولى أحد القوزاق تلك المهمة بيسر ويوبخه بأنه يشبه قطًا ترك فأرًا ويسخر من جبن هؤلاء المثقفين من ذوي النظارات أصحاب القلوب الرقيقة. كما في قصة "بعد المعركة" إذ ينال التقريع لأنه لم يحشُ مسدسه ولم يتبادل إطلاق النار مع الپولنديين, فيئن تحت ثقل إكليل الموت, يتسول من القدر أن يمنحه أبسط قدرة ممكنة؛ القدرة على قتل إنسان!

يتضح التشوه الأخلاقي الذي تصبغ به الحرب كل من يخوضها في قصة "خطاب" فهنا آل كورديوكوڨ منقسمون على أنفسهم, فالأب يحارب في صفوف البيض (أنصار النظام القيصري السابق) بينما أولاده يحاربون في صفوف البلاشڨة الحُمْر. يرسل أصغر الأبناء ويُدعى ڨاسيلي المحارب في صفوف الحُمْر خطابًا مطولاً إلى أمه يرجوها أن ترسل له مؤنًا لأنه يتضور جوعًا وبردًا ويطمئن على صحة الجواد ويشدد عليها في تنظيف ساقه المصابة بالجرب, ثم أخيرًا يذكر لها بعد كل ذلك الحديث الطويل عن الدمار والفقر المتفشيين حوله, أن أباه قد قتل واحدًا من أولاده (أي شقيق ڨاسيلي) والطرفة الأكثر سوادًا تكمن في اعتقاد الأب أنه يعاني كمثال المسيح المخلص! وبعد أن تمكن الحُمْر من البيض واستطاعوا القبض على الأب ليقضي نحبه على يد أحد أولاده انتقامًا لشقيقهم المغدور فيدور.

أما قصة "جيدالي" فتمثل المنطق الأخلاقي الصادق وسط حالة من العبث السوداوي, فجيدالي يرى أن الثورة الحقيقية هي الأفعال الحسنة لصالح وخير الناس جميعًا, بينما لا تفعل الثورة الحالية ومناهضوها سوى اقتراف القتل والتدمير. فالثورة الحقيقية تنتج أناسًا صالحين لا قتلة فأين هي تلك الثورة الحلوة؟ أجل؛ أين هي تلك الثورة الحلوة عندما يكتشف الراوي في قصة "عبور نهر زبروتش" بعد وصف ساحر لحقول الجاودار والقمح ساعة الغروب وقد أثقلت رائحة القتل النفوس المُنْهَكة, أنه يرقد إلى جوار جثة شيخ يهودي ذبحه الپولنديون, وكأن كوابيس المنام التي يحلم بها الراوي تجاور كوابيس الواقع الأكثر بؤسًا.

قصة "السيد أبوليك" هي واحدة من أطرف قصص المجموعة, فالفنان المجنون أبوليك يرسم الأيقونات ولوحات القديسين في كنيسة نوڨوجراد بوجوه السكان المحليين, بل ويرسم اللوحات المقدسة بالطلب لمن يدفع رغبةً في رسم وجهه في تفاصيل قصة دينية. يتحول الأمر إلى هرطقة مضحكة تثير حفيظة الكنيسة الكاثوليكية. الأدهى أن كاهن الكنيسة عندما يفر هاربًا مع تقدم سلاح الفرسان نحو نوڨوجراد, ويتضح أن مساعده روموالد جاسوس خائن, يكتشف الحٌمْر أن الكاهن كان يخبئ في سرداب سري الأموال والمجوهرات والملابس الداخلية النسائية!

فيلاحظ القارئ بوضوح كيف يشكل التراث الديني ملمحًا مهمًا في الثقافة الجمعية للشعوب وكيف تثار المشاعر بسبب تدنيس المقدسات وسط شيوع الإلحاد وانتشاره. وليس ذلك فقط بل كيف أسهمت الثورة في تحويل الفلاحين والمزارعين  من حياتهم الوادعة الهادئة إلى آلات للقتل كما في قصة "حياة ماتڨي روديونيتش باڨليتشينكو" راعي المواشي البسيط. ليشبه المشهد رقصة موت ثملة بنشوة الدم عندما يتغنى: ـ آه منك يا عام 1918 الفاتن! آه لو نتنزه معًا لبعض الوقت أيها العام الدموي! سوف ننشد أغانيك, سوف نشرب خمرك ونؤسس لحقيقتك, آه يا عشقي!   

أو مثلما توضح قصة "بريشيبا" الشيوعي العائد للانتقام بعد فراره من البيض الذين أعدموا أبويه واستولوا على أملاكهم كيف تتسلط روح الثأر على الإنسان. وهو ما نستوعبه من قصة "الملح" والتي لا يتماثل راويها مع ليوتوڨ, إذ يساعد امرأة تدَّعي أن معها رضيعًا في الصعود للقطار ويجنبها الاغتصاب على يد القوزاق, لينكشف كذبها وأن الطفل الرضيع ما هو إلا كيس ملح وأن المرأة مناهضة للثورة, فيلقي بها من القطار ثم يرديها قتيلة.

وأمام العشرات من النماذج الإنسانية التي  يقدمها لنا إسحاق بابل في سلاح الفرسان نجد أنفسنا حائرين. فالحرب تجربة مقيتة, تفضح كل خبايا النفوس من مكر ودهاء, من كذب وخبث, من رقة وحنو, من طيبة وصفاء. ولكن الحرب التي يؤججها نظام شمولي بادعاء دوافع نبيلة ويحول البسطاء إلى ماكينات دموية, مُخْرِسًا كل الأصوات المناهضة له, هي الأسوأ على الإطلاق. وكأن الأديب العظيم إسحاق بابل كان يتوقع كل ما كان سيحل بالنظام السوڨييتي الاشتراكي بعد عقود. كلفته كتاباته ثمنًا باهظًا, حتى الصمت لم يشفع له أمام القبضة الحديدية. ولكن بقيت لنا كتابته السابقة لعصرها بصياغتها الفريدة والتي أثرت في كل من قرأها وتعلم من مدرستها السردية ومغزاها الإنساني, كما وصفها الأديب الأمريكي إرنست همنجواي بأنها كالجُبْن الذي عُصِرَ بشدة ليخرج منه الماء تمامًا. مجموعة سلاح الفرسان عمل أدبي فريد من نوعه, يُحْسَب لمترجمه الأستاذ يوسف نبيل تقديمه لقراء اللغة العربية في ترجمة أدبية أنيقة, وهي من نوعية القراءة التي تدفع القارئ الخبير للتمعن والتأمل فيما بين السطور من دلالات كاشفة ومعبرة.     

 

 

        

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

Article المقال ( Septembre )

Article المقال ( Octobre )

Article المقال ( Septembre )