Article المقال ( Juillet)




 



Ñ   إدوارد سعيد ... إشكالية فلسطين      Ò

(4/6)



بقلم : أ.د. عصام الدين فتوح

أستاذ الأدب الإنجليزى – قسم اللغة الإنجليزية وآدابها

كلية الآداب

جامعة الإسكندرية







 

كان من الطبيعي، بل من المحتم، على إدوارد سعيد أن يتناول القضية الفلسطينية، الركيزة الأساسية لدراسته الثانية، في الثلاثية التي كان قد بدأها بتفنيد وتفكيك الاستشراق، كأرشيف معرفي، تناولت الدول الغربية الاستعمارية من خلاله تبرير حملاتها العسكرية والسياسية على شعوب من اختراعها، تحيا في حالة بدائية، وفق حضارة متدنية، تمتاز بالكراهية والعداء لقيم التحضر والتقدم، التي رأى فيها الغرب، ممثلاً في إنجلترا وفرنسا وألمانيا، أعظم إنجازات الجنس البشري.




أتم سعيد كتابه "الإشكالية الفلسطينية" The Question of Palestine (1979) في أواخر السبعينيات من القرن العشرين، وكان هذا المرجع بمثابة الصوت الفلسطيني الأول الذي أخذ على عاتقه القيام بجهد عربي ناجح في إعادة كتابة تاريخ فلسطين من وجهة النظر العربية، تستند إلى رؤية واضحة ومنهجية موثقة بالتواريخ والأرقام، لقصة صمود شعب، أُبْعِدَ قصراً عن أرضه، وتشتت أبناؤه ما بين الدول العربية وأوروبا وأمريكا عن طريق احتلال استيطاني لا يرحم، في مواجهة شعب أعزل عن طريق التهجير والترهيب والترويع منذ نكبة 1948، بل وتعرضه إلى المزيد من القهر لمساندة المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، ومن ورائها انجلتراً أولاً، وأمريكا – التي حلت محلها ثانياً – في امداد القوى الغاصبة بالمال والسلاح.

وهذا الكتاب تعمد أن يكون أسلوبه واضحاً جلياً، معتمداً على أدلة مادية ملموسة، أي بمثابة دفاع قانوني وفكري عن حقوق سُلِبَت، وأملاك نُهِبَت، واثماً بالغاً ارتُكِبَ، أمام محكمة الرأي العام العالمي. كان الكتاب موجهاً بالأساس إلى قارئ أمريكي لا يهتم كثيراً بسياسة بلاده الخارجية، وجاهلاً بصفة شبه تامة بتاريخ فلسطين، أو حتى وجود الإنسان الفلسطيني ذاته.




وساهمت بالطبع معرفة سعيد بالأدب الغربي بصفة عامة، والإنجليزي بصفة خاصة، والإصرار الإسرائيلي الصهيوني على إظهار أوجه التشابه بين التجربة الأمريكية الرائدة لإقامة صرح حضاري متميز على "أرض بلا شعب" عن طريق الحركة البيوريتانية الأصولية، التي أبادت ما أبادت من قبائل السكان الأصليين، وتوسعها المستمر عن طريق بناء مستعمرات، تطورت إلى ولايات، يجعل منها المستعمر الأوروبي البروتستانتي الأبيض مثالاً يحتذى للعالم أجمع.

يسخر سعيد من تلك الفلسفة المثالية التي لا ترى في الأفكار سوى خيالات مبهمة، لا تمت للواقع من قريب أو بعيد، إلا أن الفكرة عند سعيد قد تنمو تاريخياً لتصبح أيديولوجية حاكمة أو عقيدة شبه ميتافيزيقية، لها من القوة والهيمنة ما قد يفوق السلاح والعتاد، وتدفع المؤمنين بها إلى القتال من أجل تحقيقه.

من الممكن تقسيم دراسة سعيد إلى جزئين في غاية الأهمية، مستغلاً أصوله الفلسطينية من جهة، ونضاله الفكري كمستشار لمنظمة التحرير الفلسطينية، وكتاباته السياسية ولقاءاته مدافعاً عن العروبة والإسلام والحقوق الفلسطينية الضائعة في شتى وسائل الإعلام الغربية من إذاعة وتلفزيون وصحافة من جهة أخرى، والتأريخ الأكاديمي المنضبط لظهور فكرة الصهيونية وتغلغلها عن طريق الفكر والأدب في إنجلترا خلال القرن التاسع عشر من جهة ثالثة، وارتباطها اللصيق بالملف الإستشراقي عند كتاب مثل جورج إليوت وديزرائيلي إلى أن أصبحت يوتوبيا يهودية، تَمَثلها الآلاف من اليهود الأوروبيين، واكتسبت مصداقية جعلت منها مطلباً لليهود خلال الحرب العالمية الثانية، بمجازرها الفاشية على يد هتلر ومأساة أفران الغاز التي يقر بها إدوارد سعيد، مظهراً تعاطفاً مع مأساة حلت بأناس لا ذنب لهم ولا قوة إلا لاختلافهم في العقيدة الدينية. إلا أن هذا لا يمنع اطلاقاً من أن سعيد لا يرى أن مثل تلك المأساة التي حلت باليهود، تعد مبرراً أو دافعاً، يؤدي بالضرورة إلى تشريد واضطهاد شعب بأكمله لم يكن حتى قد سمع أو مارس ما يطلق عليه بمعاداة السامية.

ترتبط الصهيونية والامبريالية الغربية ابستمولوجياً، وبالتالي تاريخياً وسياسياً مع منظور لا يعترف أساساً بوجود الملايين من الفلسطينيين، يقطنون تلك الأراضي التي جعل منها الصهاينة هدفاً رئيساً لمخططاتهم، وبداية العمل على انشاء مؤسسات اقتصادية وسياسية واجتماعية تعمل بدأب على اخراج مثل هذا المخطط وتنفيذه على أرض الواقع.




ولعل رد الوفد العربي على وثيقة ونستون تشرشل (The White Paper) عام 1922، قد أظهر مبكراً وعياً بالخطر التاريخي المحدق الذي يتهدد السكان الأصليين لفلسطين في انشاء وطن قومي لليهود على تلك الأراضي، باقصاء سكانها من العرب، والتضحية بتراثهم الحضاري والتاريخي. وقد تم بالفعل تجاهله تجاهلاً تاماً من قبل المؤمنين بالصهيونية، والذين رأوا أن الأخوة اليهودية، وتطلعاتها العرقية الدينية، لا تنطبق إلا على اليهود، وترتبط بدعوة إلى الجهد والكفاح، خاصة وبعد تلقي اليهود لمأساة المعاداة للسامية التي أودت بحياة الملايين منهم، إلى الإصرار والتشبث بعقيدة تجمع يهود العالم كافة، وتيسر لهم الهجرة إلى الأراضي الفلسطينية، وتمكنهم مادياً وعسكرياً من الهيمنة على أرض الميعاد والسيطرة عليها.

لم يمثل العرب مطلقاً أي عنصر في تلك الرؤية الأسطورية التي افترضت أن الاحتلال الغاشم لأرض فلسطين، ما هو إلا عودة إلى أرض الأجداد، وتحقيق لإرادة إلهية، ووعد بإقامة دولة للشعب اليهودي، يسيطر بها على الأرض والشعب العربي في فلسطين.




ومن الجدير بالملاحظة هنا أن إدوارد سعيد في هذا المبحث التاريخي، قد اعتمد أساساً على مصادر يهودية صهيونية معتمدة، من هيرتزل إلى حليم وايتسمان، ووصولاً إلى مجرمي الحرب من أمثال مناحم بيجين، الذي كان مطلوباً يوماً من السلطات الإنجليزية بصفته إرهابياً، مسئولاً عن قتل مواطنين إنجليز، ناهيك عن الفظائع التي ارتكبها في حق العرب. ومن المفارقات التاريخية المذهلة أن مثل ذلك المجرم قد حاز على جائزة نوبل للسلام، مناصفة مع الرئيس المصري أنور السادات.

كان سعيد مدركاً لصعوبة نشر مثل تلك الدراسة في الولايات المتحدة في عالم ثقافي، أبسط ما يقال عنه أنه كان معادياً للعرب عموماً، وملصقاً لصفة الإرهاب بكل من هو فلسطيني، وواقع تحت هيمنة نظام رأسمالي تلعب فيه الصهيونية العالمية دوراً محورياً مادياً وثقافياً.

لم تكتف دار نشر Beacon Press برفض كتاب سعيد، بل ورفضت إعادة النص الأصلي لصاحبها، قائلة: "هذا كتاب لا يكتفي بإظهار الفلسطينيين كشعب، بل ويركز على الجرائم التي ارتكبت باسم الصهيونية". وللأمانة، فقد تقاعست دور النشر العربية ذاتها عن ترجمة ونشر الكتاب عند صدوره.

لا شك أن أحداث الأسابيع القليلة الماضية قد أيدت رؤية سعيد التاريخية، وأثبتت – بما لا يدع مجالاً للشك – أن الصمود الفلسطيني ما زال مستمراً حتى يومنا هذا، وأن شعوب العالم، شرقاً وغرباً، بدأت تعي – وإن متأخراً – الخطر الصهيوني الذي لا يتهدد العالم العربي فحسب، بل والسلام العالمي برمته.

 

بيروت، في 30/6/2021


Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

Article المقال ( Septembre )

Article المقال ( Octobre )

Article المقال ( Septembre )