Article المقال ( Juin)
Ñ إدوارد سعيد ... تفكيك الاستشراق Ò
(3/6)
بقلم : أ.د. عصام الدين فتوح
أستاذ الأدب الإنجليزى – قسم اللغة الإنجليزية وآدابها
كلية الآداب
جامعة الإسكندرية
بعد ظهور دراسته عن الروائي الإنجليزي البولندي الأصل
جوزيف كونراد، والاستقبال النقدي الحافل الذي لقيه، تم قبول إدوارد سعيد عضواً
بهيئة التدريس بقسمي اللغة الإنجليزية والأدب المقارن بجامعة كولومبيا، التي تحتل
مكانة خاصة كواحدة من أفضل الجامعات في الولايات المتحدة. وكان ظهور كتاب
"بدايات" (1975)، كتابه الثاني، بمثابة إعلان بميلاد ناقد متميز في مجال
الأدب المقارن، لمعرفته الموسوعية بالتراث النقدي الأوروبي تاريخياً، وتطبيقه
لأحدث النظريات الوافدة من فرنسا، لمفكرين من أمثال ميشيل فوكو وجاك دريدا ورولاند
بارث وآخرين، قبل أن تترجم أعمالهم إلى الإنجليزية.
سعى سعيد كمفكر وناقد إلى استقصاء أسباب العداء الفكري
لما عُرِفَ بالشرق، فوجه جل اهتمامه إلى الأسس الإبيستمولوجية والتاريخية التي
أسست لما عُرِفَ بالإستشراق. أما على المستوى الشخصي، فقد تغيرت حياته الشخصية
بصفة جذرية، إذ تزوج بعربية، وعاد إلى الشرق، وبالتحديد إلى بيروت لبنان،
أصبحت اللغة العربية لغة حديث سعيد وعائلته الصغيرة في
نيويورك، وكان مطبخ مريم لا يخلو من الأطعمة والوجبات العربية، من مكدوس ولبنة
وحمص وزعتر وزيتون. وبهذا الميلاد الجديد، عكف سعيد على كتابة ثلاثيته الهامة من
منظور مبتكر، ما كان للأوساط الثقافية الأمريكية أو حتى إدوارد سعيد ذاته كناقد أن
يحلم بها قبيل 1967.
قليلة هي الكتب التي تتمكن من احداث ثورة معرفية في تخصص
علمي بذاته، فما بالك بثورة علمية عارمة كان لها أكبر الأثر ليس على الأدب المقارن
والنقد الأدبي فحسب، بل وقدم نقداً فلسفياً ومنهجياً للاستشراق ودراسات الشرق
الأوسط، وكان له أكبر التأثير على العلوم الإنسانية المختلفة، مثل التاريخ والجغرافيا
وعلمي الاجتماع والأنثروبولوجيا.
تفرغ سعيد لكتابة "الاستشراق" (1978) لثلاث
سنوات على الأقل، لدراسة الموضوع قيد البحث، ليس كمستشرق متخصص، بل كناقد راديكالي
للأسس الإبستمولوجية التي استند إليها الاستشراق في القرنين الثامن والتاسع عشر
بفرنسا وانجلترا على وجه التحديد، والتي انتقلت إلى نسخة أمريكية في القرن
العشرين. ومن الطريف أن الكثير من الناشرين بأمريكا رفضوا اصدار الكتاب إلى أن
قبله ناشر آمن بأهميته.
كان من الطبيعي أن يتصدى غلاة المستشرقين والمتخصصين في
دراسات الشرق الأوسط، الذين رأوا في كتاب سعيد تهديداً لعملهم المباشر، بادعاء
افتقار سعيد للمعرفة بأهم أعمال المستشرقين، وتركيزه على الاستشراق الأنجلو فرنسي
مع تجاهله التام للتراث الألماني للاستشراق. والواقع أن كتاب سعيد لم يدّع مطلقاً
بأنه مسح شامل، أو دراسة كاملة لتاريخ الاستشراق، بل على العكس من ذلك فقد أشار في
كتابه إلى مثل تلك الدراسات. أما بالنسبة لتركيزه على التراث الأنجلو فرنسي،
فمرجعه ببساطة إلى أن كل من فرنسا وإنجلترا قامتا بالفعل بمحاولة فرض هيمنة عسكرية
وثقافية على الشرق بدءاً من حملة نابليون على مصر، وانتهاء بإدارة اللورد كرومر
على مقدرات مصر، مستعيناً بمعرفة أتاحها له الاستشراق الإنجليزي. أما بالنسبة
للاستشراق الألماني، الذي لا يغفله سعيد، ويشير إليه في أكثر من موضع، فلا يحتل
نفس المكانة لعدم ارتباط المصالح الألمانية مباشرة بدول الشرق.
ولعل وصف المستشرقين للموضوعية التي تتصف بها أعمالهم،
يجافي الاتجاه ما بعد الحداثي الذي يسلط الضوء على الجانب الأيديولوجي كمكون أصلي للفكر التاريخي والسياسي والاجتماعي، كما أظهرت
وتظهر موضوعات الدراسات النسوية feminist
readings،
ودراسات الأقليات minority readings، وجميع الفئات
التي كان من المحرم عليها الادلاء بسردياتها المختلفة.
اعتُبِرَ الكتاب مناهضاً للغرب ككل، ومؤيداً للشرق في
عدائه للغرب، بينما يُظهر كتاب سعيد بكل وضوح رفضه التام لاختزال الحضارات العربية
والإسلامية تحت مسمى واحد، "الشرق"، وهو بالتالي لا يروج لمفهوم اختزالي
للغرب ذاته. ولعله يجدر بنا أن نضيف أن استقبال "الاستشراق" في العالم
العربي على أنه وثيقة دفاع مجيدة عن العروبة والإسلام، التي دأب الغرب على الإساءة
إليها تحت عنوان الاستشراق، لا يخلو من تبسيط مخل.
والواقع أن مثل تلك المحاولة لم تكن لتحظى بأي اهتمام
أكاديمي جاد من جانب سعيد، إذ رأى بعض المفكرين العرب دعوة إلى تشييد نظام معرفي
لمجابهة الاستشراق تحت مسمى "الاستغراب" occidentalism. ولا يمانع سعيد بالطبع قيام مؤسسات بحثية متخصصة
لدراسة الولايات المتحدة الأمريكية أو تاريخ الاستعمار الغربي – الإنجليزي
والفرنسي – من وجهة نظر شرقية، إلا أنه لا يرى في المؤسسات العربية الحالية القدرة
على القيام بمثل هذا المشروع الضخم على أسس علمية في الحاضر.
وأخيراً وليس آخراً، فقد انتقد الكثيرون – شرقاً وغرباً –
مناقشة كارل ماركس، وكلماته التي أصبحت بمثابة عقيدة دينية لتابعيه، أكثر منها
أسلوباً جدلياً للبحث التاريخي. ونكتفي في هذا المقال بمناقشة مثالين ناقشهما سعيد
بتفصيل وأصالة تُميز هذا المرجع العمدة.
الحملة الفرنسية على مصر
وإذا كنا نعتبر أننا يمكننا أن نؤرخ للبدايات الحقيقية
للحداثة في مصر، وتعرفها لأول مرة على العلم المعاصر، مع قدوم الحملة الفرنسية، فقد
كان من ثمراتها إعادة كتابة تاريخ مصر بعد أن نجح شامبليون باكتشاف حجر رشيد، ووضع
اللبنات الأولى لما أصبح فيما بعد علم المصريات في القرن التالي، والنجاح في إقامة
مشروع قناة السويس الذي رفع من قيمة مصر جغرافياً واستراتيجياً، جاعلاً منها
مطمعاً استعمارياً عظيماً لقوى الغرب المتنافسة وخاصة إنجلترا وفرنسا.
كانت السيطرة على مصر للحفاظ على المصالح الفرنسية في
المتوسط، واعتراض الأساطيل الإنجليزية المتجهة إلى الهند، فكرة راودت السياسة
الفرنسية منذ عام 1777. وكانت مصر حينذاك تحت حكم عدد من المماليك المتنافسين على
تحقيق السيادة الكاملة على الأراضي المصرية، مستغلين ضعف الدولة العثمانية الآخذة
في الأفول.
أشرف نابليون شخصياً على إعداد حملة كبرى من السفن
وناقلات الجنود، مزودين بمدافع ثقيلة، وقوات من الفرسان والمشاة. ولم يكن السلاح
يمثل العامل الأوحد في قدرة نابليون على فرض السيطرة والهيمنة على بلد شرقي مسلم،
ولذلك فقد اصطحب أول مطبعة عربية إلى الشرق، وزود الحملة بمجموعة منتقاة من
العلماء والمتخصصين في شتى التخصصات من التاريخ والجغرافيا واللغويين إلى علماء
الأحياء والجيولوجيين والكيميائيين وغيرهم. وأقام معهداً علمياً – المجمع العلمي
المصري – مما أثمر عن دراسة موسوعية في عشرين جزء بعنوان "وصف مصر".
على الرغم من فشل مشروع نابليون الأكبر، وهزيمته
العسكرية برياً وبحرياً من نلسون، إلا أنه نجح في وضع حجر الأساس للاستشراق
الفرنسي كما مارسه كل من لويس ماسينيون Massignon (1883-1962)، وسيلفستر
دي ساسي Silvestre de Sacy (1758-1838)،
والذي ربط بصورة جلية ما بين الهيمنة العسكرية والثقافية والاستشراق. كما حاول
نابليون، خلال فترة تواجده بمصر، أن يتظاهر بتعاطفه الشديد مع الإسلام، وتقديره
للدور العظيم الذي لعبته الحضارة المصرية الفرعونية في تاريخ البشرية.
وكانت سياسة كرومر، كممثل للهيمنة الإنجليزية، مغرقاً في
توكيده على التفوق الأخلاقي والحضاري لشعب يعلم ماهية الشرق التي درسها وخبرها (بل
واخترعها)، والتي تصر على عدم أهلية الشرق لحكم ذاته كشخصية تفتقر إلى الفكر
المنطقي والقدرة على التخطيط، مما أوجب على إنجلترا ضرورة الأخذ بيده، والتفكير
عنه.
كان كتاب إدوارد سعيد بالطبع بمثابة الصدمة المعرفية
لمئات المستشرقين، ودعوة غير مباشرة للشعوب المستعمَرة، لتحطيم أغلال الاستشراق،
والسماح بأصوات مفكريها ومؤرخيها في مواجهة أساطير روجت لها كتابات ودراسات، زاعمة
الموضوعية والمعرفة الحقة، بدراسات ومجهودات فكرية أقل شمولية، وأكثر تواضعاً
وإنسانية من ذلك السجل البغيض لثقافة الاستشراق. ولعل الأوان قد حان لنبدأ في
إقامة مثل هذا المشروع.
بيروت، في 20/6/2021
Commentaires
Enregistrer un commentaire