Article المقال ( Juin)




 


Ñ   إدوارد سعيد ... التراث النقدي    Ò

(2/6)



بقلم : أ.د. عصام الدين فتوح

أستاذ الأدب الإنجليزى – قسم اللغة الإنجليزية وآدابها

كلية الآداب

جامعة الإسكندرية




 

نبدأ هذه الجولة في فكر إدوارد سعيد بمناقشة كتاب من أواخر ما كتب، يختلف كماً وكيفاً عن كل ما كان قد كتبه من قبل من نقد أدبي، وفكر فلسفي، ودفاعٍ عن القضية الفلسطينية.




يصنف كتاب "خارج المكان" Out of Place (1999) على أنه سيرة ذاتية، إذ يتناول طفولته الأولى بين فلسطين ومصر ولبنان، قبل سفره إلى الولايات المتحدة الأمريكية، مستكملاً دراسته من المرحلة الثانوية، مروراً بجامعة برينستون، إلى انتهائه بالحصول على درجة الدكتوراة من جامعة هارفرد.

ولاستكمال الصورة عن حياة إدوارد سعيد، فلم يكن لنا بد من الاستعانة بالسيرة المتميزة لإدوارد سعيد التي أتمها الباحث تيموثي برينان هذا العام بعنوان "فضاءات العقل: حياة إدوارد سعيد" (2021). يتيح هذان المرجعان للباحث في فكر سعيد التعرف على أهم المكونات النفسية المرتبطة بظروف التنشئة، وعلاقاته الأسرية، وخاصة مع والديه، بالإضافة إلى المؤثرات الحضارية والثقافية التي أسهمت اسهاماً كبيراً في تطور شخصيته وتعدد اهتماماته، الفنية والسياسية فيما بعد.

مثلت إشكالية الهوية الهاجس الأكبر في كل ما كتب إدوارد سعيد، وصاحب ذلك إحساس بالغربة، وعدم الانتماء، رافقه طوال العمر.

لم تمثل كتابة السيرة الذاتية هدفاً أولياً لناقد وسياسي متميز، ملأ الدنيا وشغل الناس لأربعة عقود متتالية، بل وقد أحجم عن استكمال مخطوطات لروايات لم تكتمل، وأشعار لم يكتب لها النشر، وبعض الخواطر التي اكتفى بتسجيلها في أوراقه الخاصة، إلى أن فوجئ بإعلان صادم من طبيبه الخاص بأنه قد أصيب بداء عضال، وبأن سنوات عمره قد أمست معدودة. وأنجز سعيد الكتاب، متنقلاً بين عدة دول، وبين جلسات علاج كيمائي، كانت تطول أو تقصر بنيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية.

ولد إدوارد سعيد في الأول من نوفمبر 1935 في القدس، بمنزل العائلة بمنطقة الطالبية بغرب القدس. ومن الطريف أن والد سعيد قد استعان بقابلة يهودية، تغنت بالعربية والعبرية للتخفيف عن الأم، قائلة "يا سيدنا نوح، خلص روح من روح".

أطلق وديع اسم ادوارد على المولود الجديد، تيمناً بالأمير إدوارد، أمير ويلز آنذاك. ويقول سعيد في مقدمة سيرته الذاتية أن ثمة تناقض بين "إدوار"، الاسم الإنجليزي، و"سعيد" الشق العربي، الذي يربطه بأسلافه من العرب، مساهماً في احساسه بالغربة غرباً وشرقاً.




ويشير الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش في قصيدته المهداة إلى صديقه المفكر الكبير بمناسبة عيد مولده الستين معلقاً على غربته بين شرق وغرب، وبين لغتين تسعى كل منهما في مجال مناقض للأخرى، قائلاً:

أنا من هناك. أنا من هنا

ولست هناك ولست وهنا

لي اسمان يلتقيان ويفترقان

ولي لغتان نسيت بأيهما كنت أحلم

لي لغة انجليزية للكتابة طيّعة المفردات

ولي لغة من حوار السماء مع القدس

فضية النبر

لكنها لا تطيع مخيلتي

 

https://www.youtube.com/watch?v=tmktk1ZrmHE

 

لم يكن الطفل سعيد يدرك أن زيارته للقدس عام 1947 كان مقدراً لها أن تكون الأخيرة، فبعد إقامة دولة إسرائيل أصبح الفلسطيني بلا وطن، وتحول إلى لاجئٍ مبعثر مشتت بين الدول، محروم من أبسط حقوقه في الحصول على جواز سفر أو أرض وطن يسافر منه ويعود إليه.

زعمت الدولة العبرية منذ انشائها على أن أرض فلسطين ما كانت إلا أرض بلا شعب، موعودة لشعب بلا أرض بأمر إلهي، مخالف للمنطق وحقائق السياسة والتاريخ، بحكم تفوق عسكري، أدى إلى تهجير الآلاف من العائلات، ونزوحها قصرياً بمساندة قوى استعمارية واستيطانية، جعلت منها على مر السنوات نقطة ارتكاز لنفوذ غربي، بدأ بإنجلترا وانتهى بالولايات المتحدة، التي حلت محل الإمبراطورية الإنجليزية منذ عام 1948، وإلى يومنا هذا.

حاول سعيد أن يتناول دراسة سنوات تكوينه الأولى بأمانة وصراحة تكاد تبلغ جَلدْ الذات في مواقع عدة من السيرة. فنشأ سعيد في كنف أسرة مترفة في عالم يسوده الفقر، إذ كان والده وديع سعيد رجل أعمال فلسطيني ناجح بكل المقاييس، وكان قراره الاستقرار بالقاهرة خطة تجارية موفقة، وعمل الأب بالاتجار بالأدوات المكتبية التي احتكر توريدها للقوات الإنجليزية المقيمة بمصر، ناجحاً إلى الحد الذي دفعه لامتلاك ثلاثة أفرع مختلفة بالقاهرة، خلاف فرع بالإسكندرية، وآخر بقناة السويس. واحتكر وكالة شركة ستاندرد ستيشوناري بالشرق الأوسط.

كان وديع سعيد من أوائل العرب الذين يؤمنون بالحلم الأمريكي، وكانت حيازته لجواز سفر أمريكي مدعاة فخر في جميع الدوائر التي كان يتحرك فيها، بل وكان يندم أشد الندم على الرغم من ثرائه ونجاحه، بأنه ترك الولايات المتحدة بعد إلحاح من والدته المريضة.

أطلق الوالد على نفسه اسم ويليام، الذي عرف به في حياته العملية. ولعل قراره بإرسال إدوارد لاستكمال دراسته بالولايات المتحدة كان نابعاً أساساً من عشق الوالد لأمريكا، وأمله أن يتمكن ابنه من تحقيق ذاته، والوصول إلى مرتبة اجتماعية وثقافية واقتصادية فشل والده في الحصول عليها.

استمتع إدوارد سعيد طوال طفولته بسنوات الترف والعز، نتيجة لثراء عائلته، وتمتعها بمكانة اجتماعية عالية مرموقة في مصر، كما استمتع الطفل إدوارد بوضع متميز داخل العائلة بصفته الأخ الأكبر لأربع فتيات، فكانت له حجرة خاصة بمنزلهم بحي الزمالك الراقي بالقاهرة، وكانت حجرته تطل على حديقة الأسماك التي اتخذها ملعباً خاصاً، بالإضافة إلى عضويته بنادي الجزيرة ونادي التوفيقية، قبل أن يقيد بمدرسة كلية فيكتوريا المتميزة، المصممة على طراز مدرسة إيتون الإنجليزية لتعليم أبناء الطبقة الأرستقراطية والعليا بمصر.

لم يكن سعيد الأب أباً حانياً بقدر ما كان متزمتاً ومراقباً صارماً لكل ما يأتيه ابنه من تصرفات وأعمال، ولم يكن يتورع عن إنزال أشد العقوبات بابنه الذي تضاءلت قوة شخصيته بالمقارنة إلى والده، فكان طفلاً متردداً منطوياً ومنصاعاً لطاعة أبيه العمياء من جهة، ومتمرداً شقياً خارج نطاق القبضة الحديدية للعائلة من جهة أخرى.

أما والدة إدوارد، فكانت المصدر الوحيد للحنان الذي عرفه طفلاً، على الرغم من أن حبها وتأييدها لولدها الوحيد كان دائماً مشروطاً بقدرته على التحصيل والانجاز المدرسي، الذي لم يُتِح للطفل اظهاره في تجربته المدرسية بالقاهرة.

زادت مدرسة فيكتوريا من إحساس إدوارد سعيد بالغربة في وسط يحاول الادعاء بإنجليزيته، يضم طلاباً من مصر والعالم العربي، خلاف الأرمن واليونانيين. ولعل الغرض الأول من فلسفة التعليم تلك كان اجبار التلاميذ على الامتثال لتلك التقاليد الغربية، التي لم تكتف بفرض اللغة الإنجليزية على الطلاب، بل وتدريس تاريخ إنجلترا وجغرافيتها، تلك البلد التي كان الكثير من المصريين لا يرون فيها إلا عدواً يجب التصدي إليه، بل والخلاص منه.

لم يكن سعيد طالباً نجيباً بأية حال، بل عُرِفَ عنه أنه كان مشاغباً متمرداً وموضع شكوى وانتقاد مختلف أساتذته ومدرسيه، إلى أن تم فصله نهائياً من المدرسة مما أتاح لوالده أن يتخذ قراره الحاسم بإلحاق إدوارد بإحدى المدارس الثانوية التقليدية بالولايات المتحدة، ولم يكن الفتى قد تجاوز الخامسة عشر من العمر. ولعل الفائدة الكبرى التي كان إدوارد قد جناها طوال تلك الفترة من عمره قد تركزت على حب الموسيقى الكلاسيكية، واتقانه للعزف على البيانو، مما كان له أكبر الأثر في نبوغه الموسيقى، وبداية قراءاته في كل ما كانت تقع عليه يداه من مراجع موسيقية، وتسجيلات صوتية، جعلت منه ناقداً ومحاضراً في الموسيقى، بل ومن القائمين عليها حين تبرع في أواخر أيامه بقيمة الجائزة الكبرى التي حصل عليها مكافأة لكتابة سيرته الذاتية، فأقام أول كونسرفتوار بفلسطين وامده بأعظم الكفاءات التدريسية والموسيقية في العالم أجمع.




نجح إدوارد سعيد بهذه السيرة الذاتية المتميزة في أن يقارب أعمالاً عالمية مثل "البحث عن الزمن الضائع" لمارسيل بروست، والكاتب العربي نجيب محفوظ، في احياء زمن قد انقضى إلى غير رجعة – عالم فلسطين العربية، ومصر ما قبل ثورة 1952، ولبنان قبل الحرب الأهلية والغزو الإسرائيلي، تماماً كما كان نجيب محفوظ ناجحاً فنياً في خلق عالم متكامل شهد طفولته في ثلاثيته العظيمة.

وافت سعيد المنية قبل أن يتاح له كتابة الجزء الثاني من تلك السيرة، إلا أن الجزء الأول – بصراحته المتناهية، وأمانته التي أغضبت الكثيرين، بمن فيهم أفراد عائلته الخاصة – يعد عملاً أدبياً من المقدر له أن يكون من كلاسيكيات أدب السيرة. أوصى سعيد أن توارى رفاته الثرى في منطقة المتن بلبنان، مولياً وجهه شطر فلسطين: أرض الميلاد/أرض الميعاد.







   

بيروت، في 6/6/2021




Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

Article المقال ( Septembre )

Article المقال ( Octobre )

Article المقال ( Septembre )