Article المقال ( Mai)



 





  Ñ  من قرية بشري في جبل لبنان إلى قمة الشعر العالمي   Ò


"من يترك أدباً لا يموت" 



بقلم : أ.د. عصام الدين فتوح

أستاذ الأدب الإنجليزى – قسم اللغة الإنجليزية وآدابها

كلية الآداب

جامعة الإسكندرية








وهب جبران خليل جبران عمره كاملاً للشعر والكتابة والفن، فنال شهرة واسعة الآفاق شرقاً وغرباً، وصار أيقونة للسمو الروحاني، ورمزاً للتجديد في الشعر والأدب واللغة، وثائراً ضد الهيمنة العثمانية والمادية الغربية، ومبشراً وحالماً برسالة مقدسة، احتفت بها البشرية جمعاء من خلال رائعته "النبي"، التي صدرت عام 1923 بالولايات المتحدة، ليجسد أنبل تطلعات أجيال من القراء، لما يقرب من قرن من الزمان.

ولد جبران في 6 يناير 1883، لعائلة فقيرة في بلدة بشرّي، بجبل لبنان. حُرِمَ جبران من التعليم المدرسي لعوز عائلته من ناحية، واهمال والد ماجن، وهب حياته للخمر والقمار، ومنصرفاً عن عائلة مكونة من زوجة أصيلة، تنحدر من عائلة مارونية محترمة، وولدين وابنتين.

ظهرت علامات النبوغ على الشاعر منذ نعومة أظافره، فوجد في كاهن القرية معلماً ومرشداً، قرأ عليه الإنجيل، وتعلم منه جبران مبادئ اللغة العربية. وآمنت كاميليا رحمة بموهبة ولدها الفذة من خلال رسومه التي شغف بإبداعها على كل ما توافر لديه من أوراق، بل وعلى حوائط المنزل، متحدياً أوامر أبيه وسخطه الدائم عليه. فانكب الطفل الموهوب على هدية عظيمة أهدتها إليه والدته لأعمال دافينشي، الذي اتخذ منه مثالاً أعلى ونموذجاً يحتذى طوال مسيرته الفنية.

رأت والدة جبران، إذاً، في ولدها هبةً واعدة، تنبئ بفنان ومفكر عالمي، إن تعهدته بالرعاية اللازمة، بل وقد وطدت أشقائه على تلك الحقيقة التي آمنت بها، على الرغم من تواضع ثقافتها، وضيق أفق العالم الذي تنتمي إليه. كما كان لنقاء البيئة الطبيعية الساحرة وجمالها، والمتمثلة في سهول جبل لبنان، بأشجارها وأنهارها وأضوائها الساحرة، وأصواتها وألوانها المتغيرة بتغير الفصول، والمبهرة دائماً وأبداً، أعمق الأثر على نفسية وأحاسيس والقريحة الشعرية لشاعر رومانسي في ميله للعزلة والانطواء، عاشقاً للجمال، حتى قبل أن يسمع كلمة "رومانسية" أو يدرك لها أي مدلول بالفطرة.

ثم فقدت عائلة جبران مأواها بدخول والد جبران ورب العائلة السجن بتهمة الاختلاس، فقررت ربة العائلة، والدة جبران، الهجرة إلى أمريكا، مصطحبة جبران وبطرس وأختيهما مريانا وسلطانة عام 1895. واستقرت العائلة الصغيرة بمدينة بوسطن، حيث عملت والدته بالخياطة كبائعة متجولة، وعمل بطرس بمحل صغير، مما سمح لنابغة العائلة بالالتحاق بمدرسةٍ للمهاجرين، سرعان ما تعرفت على موهبة الشاب القادم من الشرق.

قامت مدرسة الرسم والمشرفة الفنية على المدرسة بتقديم جبران، الفنان الناشئ الذي اكتشفته مؤخراً، إلى أحد معارفها وأصدقائها، فريد هولاند داي، وهو مصور وفنان ذو شهرة واسعة في الأوساط الفنية، ويعمل كناشر، تعهد بتبني موهبة الشاعر الفنان، كما أخذ على عاتقه وضع مكتبته الزاخرة في خدمته، بل ودأب على مناقشته في كل ما قرأ، وساعده مادياً بأن ابتاع منه تصميماته الفنية أغلفة لما كان ينشره من كتب واصدارات.

أدرك جبران احتياجه كشاعر باللغة العربية للغته الأم، التي حُرِمَ من التمكن من ناصيتها والإلمام بأسرارها ومكنوناتها، وبتراثها العظيم. فقرر – وهو في الخامسة عشر – وبتشجيع من هولاند داي، ومساندة من عائلته، من العودة إلى بيروت، والتحق بمدرسة الحكمة طالباً للغة العربية وآدابها. وانكب على كتابة الشعر، حتى انتخب شاعراً للكلية، بإجماع شهادات أساتذته المتخصصين وأقرانه الموهوبين في قرض الشعر، الحالمين بنهضة شعرية وثقافة أدبية، تجتاز العالم العربي بأكمله. وقد أوحت تلك الفترة لجبران تأليف رواية، قُدِّر لها أن تصبح من أوائل الروايات العربية، عن قصة حب لم يكتب لها النجاح، بينه وبين سلمى كرامة، نشرت بعنوان "الأجنحة المتكسرة" (1912).

عاد جبران خليل جبران إلى الولايات المتحدة الأمريكية، عاقداً العزم، وحالماً بتجديد الأدب العربي، جاعلاً منه صوتاً متفرداً، أصيلاً، في حوارات العالم الحديث، بعد انتزاعه من ماضٍ متحجر آس، آن له أن يتخلص من أصفاد عقلية جامدة وتقاليد بالية، فقام بتأسيس الرابطة العلمية التي لعبت دوراً محورياً في الارتقاء بالشعر والنقد الأدبي، وذيوع مدرسة المهجر الشعرية، لتصبح من أهم روافد الحداثة في الفكر العربي عامة والشعر العربي خاصة.

إلا أن عودة الشاعر، وموعده مع الشهرة والخلود في عالم الأدب جاءت مثقلة بالأحزان والمأساة، وبحزن دفين لازمه ما تبقى له من عمر، إذ قد توفيت أخته الحبيبة سلطانة بمرض السل، الذي سرعان ما أودى بأخيه الأكبر بطرس، قبل أن تناله الفاجعة الكبرى بوفاة والدته، والحب الأكبر في حياته، فعاش بقية أيامه يتيماً مغترباً، بلا مأوى سوى تلك البلاد المحجوبة التي تغنى بها في قصيدة بذلك العنوان.

https://www.youtube.com/watch?v=vQq2gUy5FWo

رأي الكثير من النقاد في تلك القصيدة حنيناً إلى المشرق وأرض الميلاد، بينما رأى آخرون إحساس الشرقي بالاغتراب في عالم غربي لا يقدر إلا المادة، إلا أن شاعرنا كان يستشعر الاغتراب شرقاً وغرباً، فلم ينتم جبران يوماً إلى شرق متخلف سياسياً وثقافياً، ولم يقنع بالاستبداد ديناً وأسلوب حياة ..

هُـو ذا الفجْرُ، فقومي ننْصَرِفْ .. عـنْ بلادٍ ما لنا فيها صديقْ
ما عسـى يرْجو نباتٌ يختلِفْ .. زهْرُهُ عـنْ كُلِّ ورْدٍ وشقيقْ
وجديدُ القلْــبِ أنَّى يأْتَلِفْ .. معْ بلادٍ كلُّ ما فيها عتيقْ

ولم ير في حضارة الغرب ملاذاً لروحه الهائمة المتطلعة دائماً وأبداً إلى الحق والخير ...

يا بِلادَ الفِكْرِ يا مهْدَ الأُلى .. عَبَدوا الحقَّ، وصلُّوا للجمَالْ
ما طلبْناكِ بركْبٍ أوْعلى .. متْنِ سُفْنٍ، أوْ بخيْلٍ ورِجالْ
لسْتِ في الشرقِ ولا الغرْبِ ولا .. في جنوبِ الأرْضِ أوْ نحْوَ الشِّمالْ
لسْتِ في الجَوِّ ولا تحْتَ البِحارْ .. لسْتِ في السَّهْلِ ولا الوعْرِ الحَرِجْ
أنتِ في الأرواحِ أنْوارٌ ونارْ .. أنتِ في صدْري فؤادٌ يخْتلِجْ

كما جمعت روحانية جبران بين المسيحية والإسلام، في فكر صوفي إنساني يَظهَر جلياً في كتابه عن رسول المسيحية "يسوع بن الإنسان" (1928)، مع تقدير وإكبار لمحمد عليه الصلاة والسلام، ومؤسس مجد الإسلام.

آمنت ماري هاسكل بقدرات الشاعر والرسام العظيم، فارتبطا بصداقةٍ وطيدة، امتدت لما بقي لجبران من عمر، بل وتولت هاسكل عملية دفنه في أرض الوطن، وإقامة صرح يخلد لوحاته ومقتنياته، ما زال موجوداً إلى يومنا هذا. وكان لمساندتها المعنوية والمادية أكبر الأثر في تشجيعه على إقامة المعارض الفنية المختلفة، ولعلها كانت أول قارئة لتحفته الأدبية النادرة "النبي" (1923)، التي تلقاها الآلاف من الظمآى إلى زاد روحي أمدهم به شاعرنا العربي، في زمن تتصارع فيه المصالح المادية، ولا يكاد يجد القارئ فيه مكاناً للحب وأرقى المشاعر الإنسانية.

سطر الشاعر العربي، بكلام من نور، سماء الأدب العربي، ويظل مصدر إلهام لكل من يقرأه في نسخته الأصلية أو مترجماً، وشاهداً ومعبراً عن أعظم ما يمكن أن يقدمه الشعر والفن عامة للإنسان في عصرنا الحديث.






 

بيروت، في 7/1/2020


Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

Article المقال ( Septembre )

Article المقال ( Octobre )

Article المقال ( Septembre )