Article المقال ( Décembre )



 





فجر الرواية الإنجليزية


 رواية "رحلات جاليفر" لجوناثان سويفت (4/5)

 

 

 

بقلم : أ.د. عصام الدين فتوح

أستاذ الأدب الإنجليزى – قسم اللغة الإنجليزية وآدابها

كلية الآداب

جامعة الإسكندرية











 

"رحلات جاليفر" للكاتب جوناثان سويفت، الأنجلو أيرلندي الكبير (1667 – 1745)، وكان قد ولد بأيرلندا لعائلة تنحدر من سلالة أدبية من الجانبين، وكان صديقاً وزميلاً للنخبة الأدبية، من شعراء ومفكرين خلال القرن الثامن عشر. وقد عمل بالسياسة والأدب، فاشتهر بكتاباته المقالية الساخرة، وآرائه المتفردة المتمردة، التي كانت عائقاً حالت دونه ودون ارتقائه لأهم المناصب السياسية والدبلوماسية كما كان يطمح. كما تسببت وطنيته الأيرلندية، وانتقاده للسياسات الكولونيالية لبريطانيا في أيرلندا، في إثارة حفيظة البلاط الملكي، وزعماء الحزبين الرئيسيين، الحزب الملكي Tories، وحزب التقدميين Whigs بالبلاد. فعمل طيلة حياته رجل دين، في مهنة لا تتناسب في رأيه مع طموحاته وامكانياته الأدبية وتطلعاته المهنية.







انتهى سويفت من رائعته "رحلات جاليفر" عام 1726، لتصبح أول رواية "الأكثر مبيعاً" Bestseller تحطم الأرقام القياسية في المبيعات، وتلقى رواجاً محلياً وأوروبياً، امتد ليشمل العالم أجمع. ولعل السبب الرئيسي لعدم اعتراف النقاد برواية "رحلات جاليفر" يرجع إلى ثلاثة أسباب، أهمها أن كلمة "رواية" ذاتها لم تستخدم لتوصيف وتعريف مثل هذا اللون الأدبي الجديد إلا بعد قرن تقريباً من ظهورها. والسبب الثاني هو أن سويفت نفسه لم يكن متحمساً للرواية باعتبارها نوع أدبي، فقد كان من ضمن النخبة التي كانت ترى في الرواية لوناً دونياً. أما السبب الثالث والأخير، فهو سطحية تناول شخصية جاليفر نفسياً وفكرياً خلال رحلاته الأربعة.

إلا أن شخصية جاليفر في تفردها كشخصية روائية، تربط ما بين الشخصية من ناحية، والبيئة أو المحيط الذي تتواجد به من ناحية أخرى، وهو مفهوم متقدم لدراسة الشخصية، لم تبلغه الرواية إلا في عصورها المتقدمة من القرن العشرين. فسويفت من هذا المنظور يعتبر أول من اعتمد النسبية في نظرته للفرد والشخصية الروائية بوجه عام.





تنقسم الرواية إلى أربعة أجزاء، تختلف حظوظ جاليفر في كل منها طبقاً لمكان جاليفر في العالم الذي يضعه فيه الكاتب. فنلاحظ بجلاء تقابل وتناقض العالمين الأولين اللذين يزورهما جاليفر. فيظهر جاليفر في العالم الأول، وهو عالم الأقزام "ليليبوت" Lilliput، والذي لا يتجاوز طول الفرد فيه ست بوصات، يظهر جاليفر فيه عملاقاً، يسهل عليه مساعدة مواطني ليليبوت من الأقزام على الانتصار على أعدائهم، باستيلائه على أسطولهم البحري بكل سهولة ويسر، ويتمتع سكان بلاد الأقزام بضيق الأفق، والتفاهة، بحيث يختلفون في كيفية كسر البيضة بعد سلقها. اعتبر جاليفر مكسباً عظيماً لآهل ليليبوت، واحتل مكانة متميزة في البلاط الملكي. إلا أن هذا الوضع تغير جذرياً عندما رفض الضيف العملاق مساعدة أهل ليليبوت على استعباد جميع جيرانهم اعتماداً على حجم جاليفر وامكانياته الهائلة. ويتهم جاليفر بالخيانة وتحاك ضده المؤامرات من كل حدب وصوب. وكان سويفت يهدف من وراء تصويره لمملكة الأقزام السخرية من إنجلترا ذاتها، وبلاطها الملكي، وصراع الأحزاب السياسية والدينية المختلفة، لاجتذاب ضحكات جمهور معاصريه من القراء.






أما رحلته الثانية إلى بلاد العمالقة "بروبدنجناج" Brobdingnag، فتظهر عملاق بلاد الاقزام قزماً، بالقياس إلى سكانها العمالقة. وهنا يبدو جاليفر مثالاً للخسة والوضاعة والتفاهة، حين يقترح على ملك بلاد العمالقة استعمال أسلحة الدمار الشامل والديناميت لدحر أعدائه، فيصبح العملاق النبيل في ليليبوت، مخلوقاً خسيساً ووضيعاً في نظر ملك بروبدنجناج، الذي ينتقد مبادئ جاليفر وتفسيره لمختلف الصراعات السياسية الأوروبية. وتواجه جاليفر مجموعة من المغامرات في الدفاع عن نفسه من أخطار الحشرات العملاقة، والقرد الذي كاد أن يفتك به عندما اختطفه. وتنتهي الرحلة بنسر عملاق يلقي بجاليفر المختبئ داخل منزله الصغير إلى البحر، حيث تحمله الأمواج عائداً إلى إنجلترا.






يهاجم القراصنة سفينة جاليفر في الرحلة الثالثة، فيلقوا به على جزيرة نائية بالقرب من الهند، لتقوم جزيرة لابوتا بإنقاذه، وهي جزيرة طائرة، عكف سكانها على دراسة العلوم والفنون والرياضيات، مثل استخراج أشعة الشمس من نبات الخيار، وما إلى ذلك، بالرغم من عجزهم عن تطبيق معارفهم المكتسبة لتحسين معيشتهم والارتقاء بظروف حياتهم. ويسخر سويفت من أوج التقدم العلمي، الذي تمثل في الجمعية الملكية للعلوم وتجاربها المختلفة في القرن الثامن عشر، بانتقاد كل علم وفرع من فروع المعرفة بغير فائدة عملية، وانكباب العلماء على تجارب لا طائل من ورائها.






وفي آخر رحلة لجاليفر، يفاجئنا الكاتب بخيول عاقلة ناطقة، تتميز بحكمة يفتقدها الإنسان، الذي يصوره سويفت كمخلوق أشبه بالقردة – الياهو – لا يتبع سوى غريزته، ويتصف بأنه غيور وكثير الشجار، وأبعد ما يكون عن الآدمية. ويعجب جاليفر بسادته الجدد من الخيول العاقلة، ويتمنى أن تقبله دولتهم مواطناً من الدرجة الثانية.

ويعود جاليفر إلى عالم البشر، محملاً بآثار تجربته في الرحلة الأخيرة، فينعزل عن الناس، ويفضل صحبة الخيل عن صحبة البشر. ولعل تشاؤم الكاتب، واكتئابه، مما أدى إلى اصابته بالجنون في أيامه الأخيرة، كان من مقومات كتابته للرحلة الأخيرة. ولا شك أن النجاح المدوي الذي حققته "رحلات جاليفر" منذ ظهورها وحتى يومنا هذا، واستلهامها لأدب الرحلات، جعلت منها نموذجاً أولياً للرواية كنوع أدبي طيلة ثلاثة قرون.

ومن ثم ينضم جاليفر البحار الإنجليزي الوحيد إلى سلفه روبنسون كروسو، فينضما معاً إلى الأبطال الأسطوريين البحريين شرقاً، كالسندباد، أو غرباً كعوليس بطل أوديسا هوميروس. وما زال، من القرن الثامن عشر وإلى يومنا هذا، أطفال العالم وقراء الرواية، يبحرون معهما في عوالم الخيال.  






 




Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

Article المقال ( Septembre )

Article المقال ( Octobre )

Article المقال ( Septembre )