Article المقال ( Septembre )

 





إليزابيث





بقلم : د. ليلى أحمد حلمي

 أستاذ مشارك اللغة الإنجليزية 
رئيس قسم اللغة الإنجليزية وآدابها
كلية العلوم الإنسانية جامعة بيروت العربية 



 

اكتشف برام ستوكر أثناء زيارة لقرية بيزلي، إحدى قرى الريف الإنجليزي، تقليداً ريفياً فريداً، حيث كان من عادة أهل القرية، ضمن احتفالات أعياد شهر مايو، باختيار أحد الفتيان ليرتدي ملابس العصر الإليزابيثي. وبدأ ستوكر في استكشاف هذا التقليد العجيب، ليصل إلى حكاية غريبة، تحولت إلى نظرية من نظريات المؤامرة في كتابه "مشاهير المحتالين" (1910).

وتقول الحكاية الغريبة، أن الطفلة إليزابيث كانت في العاشرة من العمر عندما اجتاح الطاعون أرجاء لندن، فتقرر أرسالها إلى الريف لحمايتها من خطر العدوى والوفاة. إلا أن الفتاة الصغيرة أصابها مرض ما، أدى بالفعل إلى وفاتها، تزامناً مع أخبار عن زيارة قريبة لوالدها الملك هنري الثامن. فما كان من مربيتها والخادم الأمين إلا أن يصيبهما الهلع، فقررا الإسراع بدفن الفتاة، والبحث عن طفلة أخرى لتحل محلها، خوفاً من أن يصب الأب جام غضبه عليهما. إلا أنهما لم يتمكنا من العثور سوى على طفل تتطابق أوصافه مع الفتاة المتوفاة، من جسم نحيل وشعر أحمر متوهج. فتم الباسه ملابس الأميرة، ليصبح فيما بعد ملكة إنجلترا العذراء – أو بالأحرى، ملك إنجلترا العذري؟؟

قد تبدو هذه احدى قصص برام ستوكر المثيرة، التي أمست تعرف باسم "نظرية فتى بيزلي"، ويدعمها بعض الحجج التي صاغها من المؤرخين من قرر الاعتراف بهذه الرواية، فيقول البعض أن هذا يفسر رفض الملكة إليزابيث الأولى رفضاً تاماً طيلة حياتها الارتباط والزواج بأي ممن تقدموا بطلب يدها، على الرغم من أن مثل هذه الزيجات كانت تمثل معاهدات سياسية هامة في ذلك العصر، تحدد موازين القوى وموقع إنجلترا من أوروبا قاطبةً.

كما أورد البعض أن شكوكاً كثيرة أحاطت بإليزابيث حول قدرتها على إنجاب الأطفال، وأنها أوصت بمنع اجراء أية تشريح لجثتها بعد وفاتها. بل وذهب البعض إلى حد الادعاء أن مكياج الملكة وملابسها كانت جميعها تسعى إلى إخفاء معالم الذكورة في وجهها وجسدها، من طبقات من صبغات الوجه، وفساتين واسعة عالية الرقبة، واصرارها دوماً وأبداً على ارتداء شعر مستعار.

وأشار البعض، مثل النبيل سير روبرت تيرويت عام 1589 إلى سر دفين تحرسه مربية الملكة الليدي أشلي وخادمها توماس باري بحياتهما، ويقتبس آخرون من معلمها الخاص، روجر آشام، أنه كتب عام 1550 قائلاً إن عقل تلميذته لا تشوبه شائبة ضعف نسائية، وأنها تتمتع بقدرات فكرية ذكورية هائلة. كما يستعين أصحاب هذه النظرية بكلمات الملكة إليزابيث ذاتها حين أعلنت قائلة: "إنني اتمتع بقلب رجل، وليس قلب امرأة، ولا أخشى شيئاً".

ولكن ...

تظل كافة هذه الحجج واهية، فهل يعقل لأب أن لا يعرف ابنته عند لقائها؟ ولعل علاقة الفتاة بوالدها، ونزوات الأخير المستمرة، وما حدث لوالدتها من تعسف وظلم انتهى بها إلى المقصلة، كفيل بأن يصيب الفتاة بعقدة من الزواج طيلة حياتها. فقد كانت إليزابيث دائماً ما تشعر بأن الرجل – مهما كان حبه لزوجته – قادر على التخلص منها في غمضة عين، دون اعتبار لما بينهما من حب أو تقدير. ومن ناحية أخرى، فإن من يتعمق في قراءة شخصية الملكة إليزابيث الأولى، يتفهم قولها بأنها تملك قلب رجل، فقد كانت محاطة ببلاط وحكومة ومعارضة جميعها من الرجال، ووجدت نفسها في موقف لا تحسد عليه، فإما أن تثبت أقدامها وتتمكن من التعامل مع الرجال باعتبارها نداً لهم، أو يتم دهسها في غمضة عين.

ومن ناحية ثالثة، نجد أن إليزابيث الملكة الشابة، سرعان ما وجدت في مفاوضات الزواج والمقايضاته، دون الارتباط الفعلي بشخص واحد، مساحة هائلة من حرية التحرك السياسي، بما مكنها بالنهوض بالمملكة البريطانية في عصرها لتصبح قوة عظمى، ليشهد عصرها نهضة ثقافية واقتصادية، واستقراراً سياسياً، ونجاحاً عسكرياً، وتوسعاً جغرافياً. وعلى الرغم من أن إليزابيث كانت آخر ملوك عائلة التيودر، فهي لم تنجب وريثاً للعرش، لكنها كانت أعظمهم. ولعل أكثر ما يبهرنا هنا محاولات الخطاب الذكوري الهائلة على قمع قدرات المرأة ونجاحاتها، وبخاصة خلال القرن السادس عشر، عندما كانت الأدوار الجندرية صارمة، فلم تسمح حتى لأشهر ملكات المملكة البريطانية بالخروج عنها دون التشكيك في أنوثتها.

لقد كانت إليزابيث امرأة رائعة، تتمتع بحس وطني هائل، وحنكة سياسية، ولعل كلماتها أفضل ما يمثلها، فقد قالت في جملة شهيرة: "أدرك أنني لا أملك سوى جسد امرأة ضعيفة واهنة، لكنني أتمتع بقلب وشجاعة ملك، بل وملك إنجلترا". فتحية لامرأة حاربت من أجل عدم اضطرارها لإثبات أنوثتها في وجه الرجال – ملكة إنجلترا العذراء.  

 

بيروت، 27/9/2020

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

Article المقال ( Septembre )

Article المقال ( Octobre )

Article المقال ( Septembre )