المقال Article ( Mai )



 




مذكرات "هلفوت"


الحلقة الثالثة



 بقلم 

 الدكتور / عصام دميان


أشرقت الشمس أخيراً ، ولم تعد إضاءة ذاك المصباح البالِ هي المهيمنة ، وفقدت الذكريات المؤلمة حليفها التقليديّ السمج ، الليل طبعا ، كما لا يخفى عليكم . فالليل هو شريكٌ تاريخيّ للألم ، ومحترف تأليب الأوجاع ، وهو مسقط رأس غالبية الشرور ، ومسرح معظم الجرائم ، منوّم الضمائر ومنبّه الغرائز . ولكن كاتبنا لا يعنيه من إشراق الشمس سوى ذلك الشعور بالسهر ، الشعور الذي يغذّي إحساسه الزائف بكونه كاتباً متفكراً ، متأملًا طيلة الليل ، بغض النظر عن الساعات التي قضاها نائماً فوق كرسيه قبل طلوع الفجر ، وفكّر أنه هكذا يكون الكتّاب كما يتخيّلهم .

قام كاتبنا عن كرسيه متثاقلاً ، متعثراً ، متثائباً بوقار الأدباء كما يتصورهم ، و متأنياً أناة الحكماء كما يتخيّلها . أعد لنفسه قدحاً من القهوة ، وهو من لم يعجب بمذاق البن أبداً ! لكنها التقاليد التي تجبر الكاتب على شرب القهوة ، فلم يعد ممكناً أن نتخيّل كاتباً مرموقاً لا يكثر من شرب القهوة ، كما أن القاريء لن يتقبل كاتباً يجرع مياهاً غازيّة ويتجشّأ ! لذا أعد مشروبه وعاد لكرسيه متناعساً ، متهيئاً لأداء دوره أمام قدح القهوة الكريه هذا، كان عليه أن يبدو مستمتعاً بمذاق القهوة ومتجاوباً مع تأثيرها المنبّه ، كأي كاتبٍ مخضرم ، وهو دورٌ لو تعلمون عسير!

نظر إلى أوراقه نظرة كاتبٍ حاذق ، كأنما يحذّرها ويلفت أنظارها لأهميّة وخطورة ما سيكتبه حالاً ، غير أن أوراقه الصفراء لم تبال ، ولم تمنحه رد الفعل الذي يشبع غروره ، بل ظلّت مستلقية متماوتة ، لا تحرك ساكناً ولا تبد حماسةً ولا قلقاً ، مهلاً ، هل جُننت؟! هكذا حدّث ذاته ، وهو يمدّ يده إلى قلمه المختار الذي يظنّه جديراً بكتابة مذكراتهيمد يمناه بتؤدة وتمهّل كمن يمعن في تهديد تلك الوريقات التي يستفزّه استرخائها ، إلا أن الأوراق ظلت هادئة ! يبدو أنه قد جُنّ تماماً ، لكنه كان قد بلغ قلمه ، استلّه بحماسٍ شديد وحذرٍ أشدّ، وابتسم تلك الابتسامة ، التي تشي بالخلل العقليّ ، بينما يظنّها خلّابة !

وبما أنّه لا يملك من الذكريات ما يدفعه حقّاً للكتابة ولا يملك من الشهرة أو الأهميّة ما يدعونا للقراءة ، قرّر أن يلجأ إلى حيلة الشكل الذي سيلهينا حتماً عن المضمون ، هكذا فكّر ، وراقت له الفكرة . فأزاح أوراقه بحماس من وجد ضالته أخيرًا ، وفتح أحد أدراج مكتبه متلهّفاً ، ليخرج منها عدداً من المذكّرات الشهيرة التي احتلت جميع الأرصفة لسنوات ، وكانت أشهر المعروضات لدى باعة الصحف لعقودٍ مضت . وضعها على مكتبه بحرص ، ونظر إليها نظرة الخبير والعالم ببواطن الأمور ، ولم يفته أن يلقي نظرة ساخرة على أوراقه الخاوية وهو يتخيّل أن فعلته الأخيرة بإزاحتها لا بد وأنّها قد أثارت فضول الأوراق بشدة !

إن كل المذكّرات أمامه تبدأ بمقدّمةٍ مشوّقة بقلم أحد الكتّاب المرموقين ، أو صاحب دار النشر المصدرة للكتاب ، ويتّفق معظمها على سرد أهمية شخصية كاتب المذكرات أو تعظيم دوره وشهادته عن أحداثٍ شارك فيها أو عاصرها عن قرب ، وهو بالضبط ما يفتقد كاتبنا ، وتنتهي المذكّرات بصور ضوئيّة لمكاتبات وخطابات تبادلها الكاتب مع شخصيات بارزه حول موضوعات هامة تناولتها المذكرات ، وهو ما يجعل من مهمة كاتبنا عسيرة ، أما الصور الفوتوغرافيَة الملحقة بكل هذه المذكّرات فتجعل مهمته مستحيلة ! وهو الذي لم يكتب خطاباً يوماً ولا امتلك صورةً تصلح للنشر !

ورغم كل ذلك ، لن يتنازل كاتبنا عن حماقته وسيمضي في تدوين مذكراته ، فهو ككل أحمق لن يتراجع عن حماقةٍ بدأها ، وكأنما يخشى فقدان اللقب.

 


Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

Article المقال ( Septembre )

Article المقال ( Octobre )

Article المقال ( Septembre )