المقال Article ( Mai )






مذكرات "هلفوت"


الحلقة الثانية



 بقلم 

 الدكتور / عصام دميان


 

ألم يؤجل كتابة المذكرات حتى تأتيه الشهرة؟!

هل بات شهيراً ولم نعلم؟!

فلما يكتب مذكراته اذن؟!

ببساطة لأنّه هلفوت ! لا يعنيه أن يبدوا منضبطاً أو منطقيّاً ولن يضيره لو قال مالم يفعل ، أو فعل ما قال أنه لن يفعل ! هـ ل ف و ت ! أليس ذلك واضحاً؟! أوليس ذلك كافياً لتكف عن الاندهاش ؟!

دعنا نأمل فقط أن يكون قد كتب ما يستحق القراءة . فنحن نعلم أنه لم يكن يوماً زعيماً خالداً ، ولا مفكّراً عميقاً ولا ضحلاً ، ولا حتّى ضحيّة ، تنعي حظّها العاثر ، ليقص مأساته فتتمزّق القلوب ألماً ! هو فقط مجرّد آخر من الآخرين ! والبطل هنا هو القاريء … أنت يا من تبذل وقتك وتركيزك ، وتحتمل هذيانه. تظنون أنني متحامل عليه؟!

ها هو يبدأ كتابة مذكراته : تحت ضوء مصباح خافت مرتعش ، هو للظلام أقرب من الضوء ، جلس وحيداً متأمّلاً وريقاته القديمة الفارغة . أوراق قد اصفرّت أطرافها من فرط الانتظار لسنوات طالت ، دون أن يمسّها قلم ، صفراء شاحبة لكنها لم تفقد الأمل . وتناول قلماً قديماً ، كان يوماً فاخراً ، هو ليس أفضل أقلامه ولكنه يبدو جديراً بكتابة المذكّرات ! هكذا لقّنوه منذ الصغر: الكاتب دائماً يرتبط بقلمه ! ومادام سيكتب ، فعليه أن يبدو كالكتّاب.الأوراق؟ ماذا يعيبها ؟! هي صفراء الأطراف فقط ، قديمة نعم ، لكنها ليست بالية ! وهي حالة توحي بالعراقة والأهميّة ، كما يعتقد كاتبنا !

دعونا لا ننشغل بما لم يعره كاتبنا اهتماماً ، فلا الأوراق ولا القلم سيملون عليه ما يكتب ، ولن يعني القاريء سوى المكتوب ، بأي قلمٍ كان وعلى أي أوراقٍ تكون . هكذا استجمع شتات أفكاره ، واستغرق في محاولات ليبدو متأملًا ، ولم ينس أن يخرج غليونه الذي اشتراه خصيصاً ليبدو متأملًا ، و لما أخفق في محاولات إشعاله مراراً تشاغل عنه مؤدياً دور الشارد ، حتى شرد فعلاً ، متفكراً فيما يمكن أن يعتبره بداية قصّته . إلا أن القصة لم تكن بهذا الوضوح في ذهنه ، دعك من أنها بدت أتفه من أن تبحث لها عن بداية ، بل وتتمنى لها النهاية !

ولما شحذ ذهنه ليبلغ مفاصل أحداثها ، لينتقي ما يمكن أن يبدو مهمّاً مشوّقاً ، فلم يجد بينها ما يمكن أن يكون أي شيء يذكر. فكّر وقتها أنه إن لم تكن أحداث حياته بالأهميّة البالغة فقد يفي بالغرض أن تكون مأساوية ، لتجذب الانتباه وتستدر التعاطف …إلا أنها لم تكن كذلك أيضاً. فلما يئس من أن يجد ضالته أخذ يستعيد ذكرياته التافهة بحريَة من لا يلوي على شيء. فإذا بالوضع قد تحسّن ، وتوالت الذكريات اللعينة: فإذ به يستنكر على نفسه أفعالاً ، ويعجب لأفكارٍ كانت ولأخرى كيف لم تكن ! وهي الآن بهذا الوضوح ! كيف لم يدركها وقتها ؟! كيف فعل مافعل ؟! وكيف لم يفعل مالم يفعل؟!

إنه النضج اللعين ، الذي يفسد متعة الأخطاء ، ولا يدع فرصة للتأنيب إلا واغتنمها ليوسعك ضرباً موجعاً، تماماً حيث يوجع الضرب بدقة. وهو الأمر الذي لم يحسب له حساباً حين فكّر بكتابة المذكرات ، فلم يرغب أبداً في محاسبة نفسه ، ولا محاسبة أي أحد آخر! هو لا يهوى الحساب أساسًا !

ولكن كرة الثلج كانت قد بدأت تتدحرج ، وتتضخّم ، ولم يعد التراجع ممكناً، فقد خرج الأمر عن السيطرة . واختلطت الذكريات ، أحزانها وأفراحها ، آلامها ومتعها ، مفاخرها ومخازيها … ولكنه ينتوي كتابة مذكراته ، ولابد من تنظيم أفكاره المختلطة تلك ، فالقراء ينتظرون ، هكذا يتخيّل وهكذا يحدّث نفسه ، ولكن العقل يأبى طاعته ، وتستمر جحافل الأفكار تتوالى، ولا يستطيع منعها

فلندعه يواجه مشكلته وحده كرجل ، ولنر ماذا سيخرج لنا في الحلقة القادمة ان كان للعمر بقيّة باقية



Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

Article المقال ( Septembre )

Article المقال ( Octobre )

Article المقال ( Septembre )