Article المقال ( Janvier)



 




   حواديت قبل الاكتئاب   



بقلم : أ.د. عصام الدين فتوح

أستاذ الأدب الإنجليزى – قسم اللغة الإنجليزية وآدابها

كلية الآداب

جامعة الإسكندرية


 

قليلة هي الروايات التي تحاول سبر الأعماق البشرية، وخاصة تلك التي تتعرض لمختلف أعراض الاختلال النفسي، التي يعاني منها الملايين، مثل الاكتئاب، والرهاب بأنواعه، والنرجسية، والانفصام، وغيرها، إلا أن قلة من رواد الفن الروائي قد اهتموا بمعالجة هذه الموضوعات. فنجد على سبيل المثال، فيرجينيا وولف، رائدة الحداثة في الأدب الإنجليزية، والتي قد تعرضت بالفعل لهذا الموضوع الشائك، إذ عانت هي شخصياً من نوبات الانهيار العصبي والاكتئاب، وصلت إلى حد الرعب من أن ينتابها الجنون الكامل، وكان هذا مما دفعها إلى الانتحار في نهاية الأمر.

وقد تناولت المؤلفة الإنجليزية العبقرية في رواية فريدة بعنوان "السيدة دالواي" (1923) شخصية سيبتيموس سميث، الذي أصيب بصدمة عصبية عندما شهد مقتل أعز أصدقائه خلال قصف مدفعي. وقد تتبعت الكاتبة تيار وعي الشخصية واحساسه المرير بالعزلة والرعب من ايداعه بمستشفى الأمراض العقلية. كما ظهرت رواية انجليزية حديثة للكاتب ستيفن فوكس بعنوان "آثار بشرية" (2005)، تسعى إلى تناول اشكالية الذهان، من خلال رحلة طبيبين للأمراض النفسية مع بدايات ظهور علم النفس الباثولوجي وتطوره.

أما في اللغة العربية، فلا بد أن نذكر ثلاثية الطبيب النفسي الكبير د. يحيى الرخاوي بعنوان "المشي على الصراط" (1977)، والتي لم تحظ إلى الآن بما يليق بها من نقد وتعليق.

هذا وقد ظهرت حديثاً رواية الكاتبة الواعدة هند عزت، بعنوان "حكايات قبل الاكتئاب"، كمحاولة جادة ومتعمقة لظاهرة الاكتئاب من منظور أنثوي، لتلقي الضوء على اشكالية تعاني منها آلاف الفتيات، ومقتحمة بجسارة علاقات أسرية مريضة، آن الأوان لتحطيم كل التابوهات التي قد تمنع الحديث عنها، وفهمها، وتحليلها علمياً ونفسياً.

وتنجح الكاتبة في اجتذاب انتباه القارئ، بل وتعاطفه، مع الطفلة البريئة "مها"، التي تنتمي إلى عائلة من الطبقة المتوسطة، وتمتاز بذكاء فطري، إلا أنها ابتليت بأم نرجسية، ووالد ضعيف الشخصية وغير قادر على التصدي لتجاوزات زوجته في حق ابنتهما البكر.

وقد حاجج رائد علم النفس الحديث ومدرسة التحليل النفسي، سيجموند فرويد، أن الأسرة غالباً ما تكون السبب الأول والرئيس، فيما يعتري الطفل من اضطرابات نفسية وعصبية، قد تلازمه طوال عمره، ولعل الحاجة الرئيسية لأي طفل في أي زمان ومكان، هي الشعور الداخلي بالامان والاطمئنان. وحين يحرم الطفل من الاحساس بالدفء العائلي، فقد يلجأ دون ادراك إلى التبول اللا إرادي، والقلق، ليقع فريسة للهواجس والكوابيس، وتعاوده نوبات من البكاء قد لا يدري لها سبباً.









وبطلتنا "مها" نشأت بمنزل تسيطر عليه امرأة نرجسية، مفرطة في الأنانية، وحب الذات، انعكس في معاملتها القاسية والحاقدة بلا مبرر، لطفلتها التي تغار منها، وترفض محاولات الأب لتدليل الصغيرة، ومساندتها. وتصاب الطفلة بالاحباط، والعزلة، علاوة على حالة مستمرة من القلق، فتتوقع العقاب في أية لحظة، من أم متبلدة المشاعر، ولا تحاول مجرد فهم لما قد تسببه للصغيرة من معاناة وحاجة طبيعية للحنان. ووصل الأمر بتلك الأم رفضها السماع لشكوى الابنة رفضاً كاملاً، من محاولات خالها المتكررة للتحرش بها، والقاء اللوم عليها، مقترحة على أبيها ضرورة ختانها.

وعانت الفتاة بالطبع من قلة عدد الأصدقاء وتوجسهم، وصعوبة الحب الذي كانت تتوق إليه بسبب الحرمان. إلا أن بطلتنا رفضت الاستسلام لليأس، شأنها شأن المئات من الفتيات في مجتمع يرى في المرض النفسي دليلاً دامغاً على ضعف الشخصية، وانتفاء الإرادة، فجاسرت مطالِبة بحقها الطبيعي في أن تحيا حرة من الهواجس، بالاستعانة بأخصائيين في العلاج النفسي.

وإني إذ أشكر الصديقة الكاتبة بأن أتاحت لي قراءة مخطوط هذه الرواية، فيسعدني أن أعلن أنها قد طرحت حالياً للبيع في معرض القاهرة الدولي للكتاب (2022) – دار الرواق – مباركاً لها باكورة انتاج أدبي متميز كما تبشر رواية "حواديت قبل الاكتئاب".

 

 

بيروت، 24/1/2022

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

Article المقال ( Septembre )

Article المقال ( Octobre )

Article المقال ( Septembre )