Article المقال ( Novembre )


 



مقال  

رأسمالية المشاعر


بقلم : مينا وجدى



  هذا حديث قد يخطئ صاحبه أو يصيب فيه؛ فهو في نهاية النهاية المطاف مجرد رأي أتاحته حدود النظر لصاحبه.

  ليس صعبا على المرء إذا ما شاهد تطورات العقود الأخيرة، أن يدرك –منذ بداية التعسينات– اكتساح الرأسمالية في الاقتصاد، وهذا أمر بديهي، لكن الذي صار لا يمكن التغاضي عنه، من وجهة نظرنا، ومع التوغل الرهيب لوسائل التواصل الاجتماعي في حياتنا، هو التأثير الاجتماعي والثقافي والفني والشعوري للرأسمالية على الناس، إذا ما أصبنا بالأساس بزعمنا بوجود علاقة وطيدة بين الرأسمالية وجميع مناحي حياة الإنسان.

  وعليه فإننا لو أردنا عرض مثال نبدأ به حديثنا، فعلينا وبلا شك التوجه للإعلانات، وبخاصة إعلانات التجمعات السكنية وكذلك المطاعم، لماذا؟ لأنه إذا ما دققنا النظر قليلا فيها، لوجدنا بكل سهولة أن الناس في أغلب الأوقات سعداء، أو أنهم حزينون حتى تصلهم وجبة الطعام التي تدخل على قلوبهم السعادة، ونحن لا نعارض أن يسوق صاحب العمل منتجه، ولكننا واجب علينا أن نعلم مدى تأثير تلك المشاهد التي نراها؛ إذ نرى أننا الآن صرنا مطالبين بعض الشيء بالبحث أو بمعنى أدق بملاحقة مشاعر معينة دون غيرها، وهذا ما سنحاول إثباته.

  إن فكرة وجود السعادة، أو وصولها عند استهلاك منتج معين، يخلق منطقا لدى الناس أنهم إذا أخذوا أكثر سعدوا أكثر، أو أنهم إذا ما حدث وحزنوا وجب استهلاك منتج معين، تجعلنا، كمثل المليارديرات، نريد أكثر، وهذا واضح جدا وبالأخص على منصات التواصل الاجتماعي، إذ يكون كل حجم من البيتزا يوجد منه حجم أكبر، وكل طعام غريب يوجد منه ما هو أغرب، وهلم جرا، ويكفي للبرهنة على ذلك الأمر مشاهدة مقاطع الفيديو المنتشرة، ومع تعرضنا الدائم لمثل تلك المثيرات نتحول من كوننا نريد المزيد لكوننا نحتاج المزيد، وهو أمر شديد الصعوبة للحفاظ على التوازن النفسي لأن الموضوع لا يقف عند حد الطعام؛ فالموظف الذي تكون حياته جحيما، وليست تلك القاعدة ولكنه مثال، الذي يرى إعلانا لمجمع سكني يكون كل من فيه سعداء، أو يرى على المواقع كيف يجوب الآخرون العالم أو كيف يتزوجون وتبدوا عليهم علامات سعادة أبدية، ذلك سيثير في نفسه التساؤل عما إذا كانت حالته المادية تلك هي السبب في شقائه وليس شيئا ثانيا، مما يدفعه لأن يشعر بأنه محتاج أكثر مما لديه الآن، أو أن المرتب –حتى وإن زاد –لا يكفي، فالرغبة دائما في ازدياد، كمثل سكان الكابيتول في فيلم "ألعاب الجوع" Hunger games الذين يأكلون ثم يتقيأون ليأكلوا من جديد.

  إن الأمر ليس معارضة لكون المرء أحيانا ما يجد أمرا يخرج فيه غليله أو يدخل على قلبه السعادة، ولكن الأمر في كون ذلك يتبدل من كونه حدث إلا كونه عادة واجبة، فمن منا لا تدخل أكلة معينة عليه السعادة، ولكن هل واجب أن نأكل الطعام بشكل يُدخِل علينا دائما السعادة التي لا نهاية لها، ويكون هناك دائما الأكثر، والدليل على ذلك الصفحات التي تُسمى مثلا بFood Porn والأمر حقيقة أنها جميعها تضع أطعمة تجعل اللعاب يسيل بشكل هستيري.

  ويمكننا تعميم ذلك على جميع المشاعر الإيجابية، كالحب مثلا؛ حيث إننا دائما نشعر أننا قد نُحِب أو نُحَب بشكل غير كافٍ بسبب "النماذج" التي نخضع لها على الإنترنت، فيصير الحب أو الحالة التي نشعر فيها به يغمرنا واجبة، فيجب أن ننظر لبعضنا بشكل معين، ويجب ان نعطي أكثر، وهكذا، وتكفي التعليقات المصرحة بأنها إذا لم تتزوج بالشكل الفلاني فلا طائل من الزواج وما إلى آخره، والأمر أننا صرنا نهتم بشكل الحب من كوننا نهتم بالحب ذاته.

  إذن ما علاقة كل ما قيل في هذا الحديث عن كوننا نُطالب بالمزيد في المشاعر بالرأسمالية؟

  الحقيقة أننا وجدنا، وهذا ما قد نخطئ فيه، أن الرأسمالية بتوجهها نحو المزيد دائما، طبعت علينا طباعا معينة منها وجوب بعض الأمور دون الأخرى، منها الشعور الذي تحدثنا عنه، ولنبرهن على الأمر مثلا، دعونا ندخل لمجتمع القراء، إذ حينما بدأت مجموعات القراء بالتزايد صارت مجتمعات لديها من التأثير على القارئ ما يؤثره المجتمع على الفرد، فنحن مثلا نرى أن هناك ثقافة منتشرة وهي الاستهلاك الفني، بمعنى أننا ندخل المكتبات ونشتري ونشتري ولا نقرأ بل نستهلك، كما أن الحذاء الجديد الخاص بميسي نزل الأسواق؛ فتلك الرواية نزلت الأسواق للكتاب الفلاني "اللامع"، وبذلك يصير الكتاب ليس كتابا بل منتجا وهذا ما لاحظه بعض الكتاب حتى صاروا يقولون إن علاقتهم بالعمل الذي هو يُعتبر مقدس أثناء مرحلة الكتابة، تنقطع لحظة طباعته وتوزيعه كمنتج، وتلك الفكرة الخاصة بال"منتج" الفني، توجد بشكل واضح للأعمى نفسه في المنتجات السمعية وهي المهرجانات، والمثار حولها جدل غبي عقيم لا نفع منه في الآونة الأخيرة، ولعل المرء يود أن يقول للمجدالين إنه ليس من شأنهم ما يقع خارج الفن، وهذا يشمل المهرجانات، بالرجوع لنقطتنا، نجد أن المهرجانات لا تعتمد نهائيا على الجودة بل على عدة الاستماعات والمشاهدات، الاستهلاك، مما يجعل بعض المنتجين يخرجون في التلفاز ويقولون مدافعين عنها إنها تعجب الملايين، وبالتالي ففكرة تحويل كل شيء لمنتج، تجعله مجالا للاستهلاك الذي لا ينتهي، ومنها المشاعر.

  وبالعودة لمشاعر الحب كمثال، فإن الذي صار جليا أيضا كمنتج، هو الأداء، وهو الواضح في الأفلام والمنشورات على المواقع وما إلى آخره حتى الوصول لما يسمى بالمقويات الجنسية والأدوات الجنسية، التي تحول الحب من كونه قد يوصف في أسمى معانيه بنظرة أو كلمة، إلى منتج يعتمد على الأداء، فنحن نوقن أن دانتي أليغييري مثلا الذي كتب آلاف الأبيات الشعرية في ملحمته الشعرية "الكوميديا الإلهية" بسبب حبيبته، إذا ما كان موجودا في عصرنا لما استطاع كتابة ملحمته الشهيرة، وإذا فعل لما وجدت رواجا.

  وعليه، فإننا لو جمعنا كم المشاعر الإيجابية التي تُعامل كمنتج على المواقع، سنصل بها لحصيلة وهي الشعور بالرضا، الذي صار في عصرنا هذا أمرا صعبا جدا، لماذا؟

  لأن الشعور بالرضا يكون في الطبيعة مولودا من عامل واحد وهو شعور الإنسان بالإمتنان لما لديه، فالمرء لو لم يكن متننا لما لديه، لن يشعر بطبيعة الحال بالرضا، الذي نراه جزءا مهما من حياة المرء والذي يعطي معنى للاستقرار فيها، وهذا الشعور بكون المرء ليس لديه ما يكفي لن يأخذ وقتا طويلا حتى يشعره بأنه هو نفسه غير كاف ولذلك لا يملك ما يكفيه، وقِس على ذلك الشعور بالأنوثة مثلا والشعور بالقبول والشعور بالروعة وما إلى آخره.

  ولكننا لسنا حتما من أولئك الذين يلومون كل شيء على الرأسمالية، إذ إننا حقيقة لم نملك من المعرفة الكافية حتى الآن ما يرضينا لقبولها أو لا، ونحن نرى أيضا أن البشر، لديهم ميل كبير جدا لما ذكرناه بالأعلى، فمثلا ما الذي يجعل مرء يفعل شيئا غبيا على الإنترنت ليشعر بالقبول أو الرواج، إذا لم يكن يرى أن هناك الكثير ممن سيستجيبون لما يقوم به؟!

  ويمكننا أن نقيس ذلك على الحروب البلهاء التي تُزهق فيها ملايين الأرواح، أو الطموح الاستعماري الذي شهدته القرون الماضية، وهو ما يدل حتما على قابلية البشر لفعل أمور غير طبيعية بالمرة.

  خلاصة القول هي أننا صرنا، من وجهة نظرنا، نقف أمام تحول كبير في كون مشاعرنا مشاعر تتغير بشكل طبيعي ولها معناها، وبين كونها تتحول لمنتج أو لكونها صارت أهدافا بدلا من كونها حالات، وهذا أمر ينزع مننا أمورا عدة منها جزء كبير من إنسانيتنا؛ فالمستهلك للسعادة ليس كالإنسان المغمور بها، والذي يضاجع عشرات الفتيات ليس كالإنسان الذي يطير لسابع سماء حينما ينظر مطولا في عين محبوبته، وعليه فإننا نرى وجوب أخذ مسافة صحية، لا تنفينا عن الجاري حولنا ولا تجعلنا ننظر للآخرين بعجرفة، عن تحولنا لمُستخدم المشاعر بدلا من الشاعر بها.

 

-مينا وجدي غطاس، الخميس الثاني من ديسمبر عام 2021، الساعة 10.09م.


Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

Article المقال ( Septembre )

Article المقال ( Octobre )

Article المقال ( Septembre )