Article المقال ( Juillet)





 



Ñ   إدوارد سعيد ... تغطية الإسلام     Ò

(5/6)



بقلم : أ.د. عصام الدين فتوح

أستاذ الأدب الإنجليزى – قسم اللغة الإنجليزية وآدابها

كلية الآداب

جامعة الإسكندرية






بمجرد ظهور الإسلام في شبه الجزيرة العربية، بادرت الكنيسة الكاثوليكية، المهيمنة على الغرب المسيحي، وحتى قبل أي تعامل مع المسلمين، أو دراسة لتعاليم ذلك الدين الجديد، إلى اظهار العداء الشديد لتلك المنظومة اللاهوتية والثقافية، ورأت فيها منافساً محتملاً، فبدأت في شن حملات دينية وفكرية على تلك العقيدة الآخذة في الانتشار، على أنها لا تعدو هرطقة مستوحاة أساساً من الإنجيل، بواسطة سياسي متعطش للسلطة السياسية، ولإشباع غرائزه في آن واحد، عن طريق تحريف وإعادة صياغة مفاهيم وقصص استقاها من الإنجيل. ومع بداية انتشار الإسلام، ونجاحه في خلق حضارة جمعت كل المؤمنين به، جاعلة منه حضارة منافسة فكرياً واقتصادياً، بل وعسكرياً، رأت فيه تهديداً للهيمنة المسيحية على العالم الأوروبي.




اعتبرت الحضارة الغربية، إذاً، أن ظهور الإسلام وانتشاره خطر وجودي لابد من احتوائه، بل والقضاء عليه إن أمكن. وهذا العداء التاريخي، والحضاري، والجغرافي للإسلام أصبح مكوناً أساسياً لروح عدائية على مر القرون.

وفي كتابه "تغطية الإسلام" Covering Islam، الجزء الثالث والأخير من ثلاثيته والتي بدأها "بالاستشراق"، وتبعها "بإشكالية فلسطين"، يقدم إدوارد سعيد محاولة أصيلة وهامة لتفكيك مثل تلك الروح العدائية التي وصلت في أيامنا هذه إلى نوع من الهوس النفسي بالإسلام Islamophobia، يستشعرها المواطن الأمريكي أو الأوروبي الغربي بصفة عامة، بمجرد ذكر الإسلام والمسلمين.

وبينما تناول سعيد في "الاستشراق" الأسس الفكرية والأدبية التي ارتكزت عليها الدراسات الأكاديمية للشرق الأوسط عامة، والعالم العربي بصفة خاصة، يؤكد كتاب "تغطية الإسلام" على تلك الأنماط التبسيطية والمغلوطة التي تحفل بها وسائل الإعلام المختلفة، من صحافة وإذاعة إلى السينما والتلفزيون، في السيطرة على وعي الجماهير الغفيرة، بالصوت والصورة معاً، إلى أنماط كاريكاتورية للشخص الإسلامي، على أنه مخادع ملاوع، معادِ للتقدم والمدنية، كاره للغرب وإسرائيل بصفة خاصة، علاوة على هوسه بالجنس والماديات.




ومن الجدير بالملاحظة هنا، أن سعيد – المسيحي الديانة – لا يحاول الدفاع عن الإسلام، بل إلى فضح تلك الصورة الخيالية المنتشرة بالولايات المتحدة لأغراض سياسية، وبتمويل صهيوني في الجانب الأعظم منه.

يزخر الأدب الأوروبي بنماذج حافلة مثل عطيل شيكسبير، وأفلام المغامرات المستوحاة من "ألف ليلة وليلة"، إلى المسلسلات التلفزيونية مثل "قوى دلتا"، والأفلام ذات الشعبية مثل جيمس بوند وانديانا جونز، التي تزخر بالعشرات من المسلمين الأشرار، وتكمن بطولة البطل الغربي الخارق في قدرته الفائقة على الانتصار عليهم وإنقاذ العالم من خطرهم الداهم الذي يتهدد الإنسانية. والواقع أن العداء للإسلام قد حل محل الخطر الأحمر الذي مثلته الشيوعية في وقت سابق، بل واليهودية ذاتها منذ أقدم العصور.

فوجئت خلال إقامتي بالولايات المتحدة بسؤال برئ من أحد أبناء زملائي وأصدقائي طلبة الدراسات العليا. سألني الطفل إن كنت قد حاربت الهنود الحمر، أو العرب المسلمين، حين كنت جندياً. لم يفاجئني سؤال الطفل كثيراً، لمعرفتي بأفلام الغرب الأمريكية Western في الخمسينيات والستينيات، وأبطال السبعينيات والثمانينات مثل الرجل الحديدي وجيمس بوند.

كان اختيار سعيد لعنوانه يقصد إلى تلك المعاني المختلفة لكلمة "تغطية"، فبالاضافة إلى معناها الشائع للمعالجة الصحفية للتقارير القادمة من العالم الإسلامي أو التي تتناول الأعمال "الإرهابية"، فهي تشير إلى "إخفاء" الإسلام خلف واجهة معدة سلفاً. وأخيراً، فتغطية الإسلام تشير إلى جعله موضوعاً للبحث أو مفعولاً به، دائماً وأبداً.




يقدم سعيد مسحاً لأهم الجرائد اليومية، والشبكات التلفزيونية، لجمهور أمريكي لا يعنيه أن يعلم الكثير عن الإسلام والمسلمين. ويشعر بالفخر، في الوقت ذاته، بانتمائه إلى قوة عظمى، ويهنئ نفسه ليل نهار على انتمائه لأعرق ديمقراطية في العالم، مفتخراً بصداقته لدولة إسرائيل. وتستند مثل تلك الرؤية إلى الكثير من مقولات خبراء الشرق الأوسط والمستشرقين من أمثال الباحث الإنجليزي الأصل برنارد لويس (1916-2018)، الذي اعتبرته الولايات المتحدة أهم متخصص في الإسلام والشرق الأوسط، فكانت برامج التلفزيون المختلفة تستضيفه للتعليق على الأحداث السياسية والإرهابية، والتهديد المزعوم الذي يمثله الإسلام للقيم الأمريكية ومبادئها. أما سعيد فيظهر بما لا يدع مجالاً للشك، ضحالة فكر هذا المدعي، وعدائه المستحكم لكل ما هو عربي وإسلامي، ومساندته غير المشروطة لإسرائيل.




لم يقتصر العداء للإسلام على الدول العربية، بل امتد ليشمل إيران التي نجحت إيران بالقيام بثورة شعبية عام 1979، فتخلصت من حكم الديكتاتور المستبد الشاه بهلوي والذي كان من أكبر حلفاء أمريكا في الشرق، فسارعت أجهزة الإعلام بنشر مذكرات الخوميني تحت عنوان "كفاحي"، إشارة إلى التشابه بين الخوميني الثائر، وزعيم ألمانيا النازي هتلر.

وحين تم احتجاز مجموعة من الرهائن الأمريكيين في السفارة، قام الإعلام الأمريكي بتقديم المشهد كما لو كان مسلسلاً تلفزيونياً، يمثل فيه المسلمون دور المعتدي الآثم، بينما يلعب كل أمريكي دور الضحية البريء لتلك الهمجية.

لم يكن سعيد بالطبع مدافعاً عن احتجاز الرهائن، بل داعياً لفهم أعمق ووعي تاريخي لأبعاد ذلك المشهد. كانت أمريكا مساندة لهيمنة الشاه في قمعه الوحشي لكافة التيارات الثورية والسياسية المنتقدة لنظامه، كما كانت الولايات المتحدة تستمتع بالسيطرة على منبع هام من منابع البترول أفادت منه سياسياً واقتصادياً. ويشير سعيد لجهل الخبراء باللغة الفارسية، والغياب التام للمفكرين الإيرانيين عن الإعلام الأمريكي، بل والغربي عموماً.

فوجئ الإعلام الأمريكي بهذا الصوت العاقل والمعارض للتسطيح الإعلامي، فقابله باستعداء عرقي وشخصي في محاولة لإسكاته وتهديد أمنه الشخصي وأمن عائلته. فتعرض مكتب سعيد للحرق، كما تلقى شخصياً عشرات التهديدات بالقتل، بل ودعوى مقدمة من بعض زملائه بجامعة كولومبيا بفصله من منصبه.

توفي سعيد عام 2003، بعد حياة متميزة من العطاء والنضال، بدأت تؤتي أوكلها بعد عقدين من رحيله، اليوم والعالم يشهد قصف إسرائيل الوحشي لغزة وقتلها لعشرات الأطفال، مما بدأ يقنع العالم بأن المفكر العربي الكبير قد كان على حق، ومن ثم وجوب إعادة قراءة "تغطية الإسلام".

      

بيروت، في 16/7/2021


Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

Article المقال ( Septembre )

Article المقال ( Octobre )

Article المقال ( Septembre )