La Nouvelle القصة القصيرة (Mars )





قصة قصيرة    

 


قهوة القسيس

------------

 

  بقلم : بيتر يوسف  


تألق كعادته ،وقف أمام المرآة تأذر بالبزة الجديدة ، فهو لم يمر فصل موسمى  إلا وابتاع  له ملابس يضيفها إلى مخزون كبير ملأت منه  الادراج والرفوف ، لم يعير اياً منها سواء ما اهترأ أو أصبح خارج قواعد الموضة . يؤمن أن لكل قطعة ذكرى خاصة في قلبه وعليه كان بيته وعمله حتى القهوة التي يجلس عليها منذ أن كان موظفاً على الدرجة السادسة في صيدناوي الى ان احيل للمعاش المبكر عقب خصخصتها . تلك الصدمة التي على اثرها ظل لأشهر داخل منزله مثل الحبس لا يخرج إلى المقهى مما أثار فضول أصدقاءه رواد المقهى وقاموا بزيارته ، خرج عليهم شاحب الوجه، كث اللحية التي كان عليه الزاماً أن يمرر شفرة حادة على ذقنه حتى وأن لم ينمو عليها الشعيرات الصغيرة  منكس الرأس ، تأملوه في سكوت ثم بادر أحدهم بسؤال عما أصابه فلم يرد. حتى اخر مزح معه  على انه بخيل لانه لم يقدم له اي مشروب او حتى كوب ماء ،فلم يرمقه حتى . خرجوا من لدنه في ذاك الوقت وهم على قول واحد " نحن في انتظارك على قهوة القسيس لانها تحتاجك".

لم يفهم ما الذي يحتاجه مقهى من زائر لها ، ربما لانه اقدم  زبون او انه الدال والمرشد لكل القادمين لها ، رواد المقهى حسبوه حكيماً ومرشداً طالما أخذوا استشارته في كل صغيرة وكبيرة في بشأن المقهى او خلافه ، يضع التسعيرة لكل مشروب بل هو الذي يتحكم في وقت ظهورها ، دائماً ما كان يعقد اجتماع او اثنين قبل الإعلان عن السعر الجديد لتمهيد ولسماع الشكاوى والمقترحات ، فعلى قهوة القسيس لا يوجد أمر يُقدم تنهى عنه الحكومة والأعراف المجتمعية يسمح للفرد أن يشرب سجائره في الداخل فقط بينما متى جلست على المقاعد الخارجية لا يسمح لك بالدخان ،وهذا ما جعل للقهوة رواد اقل  بينما سيطر" الصريفي " على مجريات الامور كعادته وقال "قليل ملتزم افضل من كثير متبجح "

اليوم هو يوم الاجتماع الهام الذي دعا له الحاج الصريفي ، فعند عودته إلى قهوة القسيس لم يجد القواعد التي ارسها كما هي ، حيث وجد أن المقهى تمتلئ من الشباب ، يدخنون النرجيلة والسجائر في الداخل والخارج حتى ذلك المجذوب الذي كان يُصرف له راتب شهري لرقية شرعية لكل زائر لمنع الحسد وجلب السعادة ، فهي خدمة مجانية أضافها صاحب المقهى ، فعندما جاء في زيارة أولى للمقهى وجده  وفحوى  رائحة البخور التى تخرج منه  زكية للغاية ،وعندما سأل الصريفي عن نوعية البخور قال صاحب المقهى انه من جار مسيحي عندما اشتمه في بيته احبه وقام بالتبخير به في المقهى وجعله دائماً . هذا ما دعى المقهى ب" قهوة القسيس " رغم أن اسمها الحقيقي " بورصة السيد احمد واولاده " .كان هذا عنصر الانجذاب الأول للمقهى ورواده من اصدقاء الصريفي ، فتوجد رقية شرعية مجانية بدعوات وتلاوات للخير وابعاد كل شر وهنا رأى الصريفي واصدقائه ان تلك القهوة مباركة وتتمسك بكل اصيل .

في ذلك اليوم ، دخل إلي المقهى ع، امتلاء من الغضب مما رآه ، في أيام شبابه وشيخوخته تضيع هباءً ، الإرث الذي وضعه يلقى يضرب به عرض الحائط ، نظر ليرى من يجلس على كرسي الادارة وجدة محمد  ابن المعلم ، فهم حينئذ ان الابن له دور في التغيير الحادث، عادة الشباب يمحو كل فعل جيد للآباء ، تحرك بخطوات متعجله رغم تحية محمد للحاج لم يردها الصريفي ، سحب ورقة من أمام الشاب الحديث الادارة وكتب " اجتماع هام الاسبوع المقبل لبحث تداعيات الحداثة . تبدأ الجلسة في الثامنة  صباحاً  " ثم قام بلصقها على الحائط الخارجي مع إمضاء " الصريفي " كانت تلك دعوة صريحة لأصدقاءه وهم كثر على عدم الجلوس طيلة أسبوع على القهوة بل هو أمر مباشر بالتجمهر الأسبوع المقبل ، لم يتفاجئ المعلم من ردة فعل " الصريفي " فهو على مقربة منه ويعلم أن امور مثل هذه تثير غضبه . فهو الى الان لا يمتلك هاتف خلوي الذي  يراه مضيعة للوقت  و ينتقص من كل من ارتدي الجينز، هؤلاء الصبية لا يقدرون ان يقودوا حتى انفسهم حتى يقودوا  محل صغير "وأبدى اعتراضه على تسليم دفة القيادة إلى ابنه وحيده الوريث الشرعى .

اغلق الباب خلفه خطى خطوته المعتادة مع العصا التي تدل على الهيبة والوقار ، وصل إلى  المقهى في تمام الثامنة إلا الربع وتوالت الوفود والاصدقاء ، كان المعلم في استقبالهم جميعاً مع محمد  والصبي والمجذوب الذى عرف أنه يجب عليه الحضور ، دقت الثامنة وكانوا مثل ما كانوا شديدي الالتزام  في العمل حتى مال الابن على ابيه " ده الموضوع جد بقى "  تعالت ضحكة كانت في البدء مستترة إلى حد كبير ولكن الابن فشل في اخفائها مما جهلت ملامته حادة بنظرة شاخصة من الصريفى الذي وقف كمن يلقي خطبة الجمعة مستنداً على عصاه فوق عتبة  خشبية كان يضعها المعلم تحت رجليه من صقيع البلاط في ايام الشتاء القارص، قبل الحديث يحرك عصاه  وارتطامها بالصندوق الخشبي ثلاث مرات مثل افتتاحيتة المسرح او احدى  حفلات ام كلثوم مما كانت  فعلهم لا ارادياً التصفيق الحار ، رد الثناء بالانحناء إلى الأمام مع قرعات خفيفة على الصدر لحين انتهاء التصفيق  اندفع  المجذوب " هدوء علشان نسمع  المكتوب "  تنهد الصريفي و بصوت وامق : اول يوم جيت القهوة هنا حسيت براحة غريبة ، انا مكنتش من الموظفين اللي بيحبوا جلسة القهوة واضطريت في يوم للجلوس  ،وهنا حسيت انه مقهى مختلف ، قابلني الشيخ الطاهر وفضل يرقيني بنفس دعوة امي الله يرحمها ، وانا لقيت نفسي بقول امين ، يوم جاب يوم سنه جابت سنة لحد ما بقت جزء منى وجزء منكم ، القهوة  مش كراسي  ، القهوة بالناس والروح اللي فيها  ودي ميزتها فيها قانون فيها مبادي فيها صح وغلط ، كل المقاهي اللي جربنا نعقد فيها عاملة زي الشارع  لا قانون ولا حاكم كل واحد يعمل اللي مابداله !! لكن دي ..دي بيت تاني ، مكان راحتنا  عايزين يخصخصوا ده كمان ، يعني احنا ملناش وجود لا عند الدولة ولا عند أصحاب القهوة !!

تعالت الصيحات وأومأ كل رجل رأسه بالايجاب بينما تابع الصريفي : المشكلة دايماً ان اي تجديد بيجي على حساب ناس  تقيلة ، المشكلة ان التجديد نفسه بيعملوا ناس مبتفهمش ، خبرتهم على قدهم ، ده لما كان المعلم يحب يزود تعريفة مشروب كان بيشورنا ،دلوقتي ولا لينا عايزة ليه؟ علشان كل شاب لسه بيقول يا هادي في الحياة عايز يبقي مدير وصاحب النصبة مع ان لو كان اتعلم وبقي صبى في القهوة يلم العدة  هيعرف احنا ازاي مهمين لما يبقي مدير  وازاي التقاليد اللي ميزت القهوة دي مينفعش نفرط فيها ، وبما ان اننا اقدم ناس في القهوة دي احنا بنرفض أي تجديد يحصل سواء بتغيير الادارة او بنزول الشيشة وشرب السجاير في كل مكان في القهوة ، وبنطالب بعودة الرقية الشرعية وبخور الشيخ الطاهر  وابقوا غيروا اللي تغيروا بعد ما نموت .

استحسن الكلام جميع الواقفين بما فيهم المعلم لان كان هذا رأيه من البداية  عدا الابن الذي يمثل قوة التغيير ،  ارتسمت علامات الظفر على وجه الصريفي الذي يبدوا انه افرغ ما في جعبته من كلام  ونال تصفيق آخر ، حاول محمد كتم ما في قلبه تمتم بعض العبارات التى أفلتت بعض العبارات منه عن دون قصد " مش احنا سبب تصفية الشركات ولا تحولكم على معاش بدري " " القهوة ليها مالك واحد وهو ابويا" " الرقية الشرعية مش قرآن " وهنا صمت الجميع وتحول النظر اليه اردف محمد الذي اخذ نفساً عميقاً لمحاولة تهدئة نفسه ولكي يعبر بشكل : يا عم صريفي لو احنا استنينا التغيير لحد ما ناس تموت يبقي مش هنغير ، كل وقت هيطلع ناس بتحب فكرة ومؤمنة بحاجات مش هنقدر نغيرها وعلشان تغير لازم نبدأ دلوقتى  وانتوا تساعدونا على كده ، القهوة بقت كلها كبار ،كبار في تفكرهم وتصرفاتهم حتى مشاربهم ، الشاي القهوة مش بيكسبوا دلوقتي لازم ندخل أصناف جديدة ، حتى الشيخ الطاهر مبقاش مفهوم للشباب وبيضحكوا عليه وعلى كلامه ، كل وقت وله ناسه و تصرفاته وأحكامه .

اندهش الصريفي من كلام الفتي ، احس بغصة الكبر وأنه عليه تقبل التغيير حتى وأن كان يرفضه ، تحرك بخطوات نحو الخارج ،تطلع الي العريضة المكتوب عليها بورصة السيد احمد واولاده ، هذا شأن لا يعنيه وكان يجب عليه الانصياع له اذا اراد الاستمرار في المجئ هنا لا التجمهر ورفضه ،تحركت الجموع واحد تلو الآخر اعترافاً بالهزيمة وعليهم تقبل الامر الواقع .

فما بعد اتفق المعلم وابنه على حجز ركن خاص لزوار المقهى القدامى بعيداً عن ازعاج الشباب المستمر ، نالت الاستحسان والمديح من جانب الصريفي الذي ذهب له الابن خصيصاً لدعوته ومن ثم جمع الاخرين . بعد فترة وجيزة انصهر الرجال القدامى مع الشباب ، كان للشباب أحاديث خاصة ومتفردة مشاكل حديثة العهد وجديدة على كلاهما ، بعد فترة صادق الصريفي الشباب وأصبح يؤنس بوجودهم ، كان شديد الاصغاء وقليل الكلام  واصبح ورعاً حتى لقبوه الشباب بلقب " القسيس " فهم تناولوا قصة فيما بينهم أن عم الصريفي هو الصديق المسيحي الذى أشتم عنده السيد أحمد رائحة البخور لأول مرة وهذا لم ينفيه أو يؤكده كلا من السيد احمد او الصريفي .

 

 

 

 

 

 

 

 


 

 


Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

Article المقال ( Septembre )

Article المقال ( Octobre )

Article المقال ( Septembre )