Article المقال ( Mars )



 




  سلامة موسى ... رائد الصحافة التنويرية    


 


بقلم : أ.د. عصام الدين فتوح

أستاذ الأدب الإنجليزى – قسم اللغة الإنجليزية وآدابها

كلية الآداب

جامعة الإسكندرية





لعبت الصحافة التنويرية في مصر دوراً محورياً في اذكاء الروح الوطنية، والمطالبة بالاستقلال السياسي والاقتصادي من التبعية للاستعمار الإنجليزي الجاثم فوق صدر الأمة منذ هزيمة عرابي، وخيانة الخديوي توفيق، والتي حرمت البلاد من النهضة الفكرية والعلمية التي حلم بها رفاعة الطهطاوي، رائد الحداثة في مصر. وعلى الرغم من أن عهد محمد على باشا كان قد شهد بعض الخطوات العملية كالتوسع في التعليم، وبدايات التخطيط العلمي، وتمكين الكفاءات المصرية من تبوؤ المناصب القيادية في الدولة، والعمل على النهوض بالشعب المصري الذي كان يرزخ تحت الاستعباد التركي لأجيال، إلا أن المواطن ظل فريسة سهلة للفقر والجهل والمرض.

ولعل الصحافة قد شاركت بصورة فعلية في الدعوة إلى الثورة عن طريق اصدار الأفغاني، وبمعاونة من محمد عبدو، جريدة "العروة الوثقى" (مارس – أكتوبر 1884). ولم تكن الثورة تعني، من وجهة نظر المستبد – بأي حال من الأحوال – محاولة التغيير الجذري للأفضل، واستحداث مجتمع أكثر رقياً عما عرفه المصريون لقرون. فكان بديل كلمة "ثورة"، كلمات مثل "الهوجة" أو "هبّة الرعاع أو الدهماء"، تتمثل في خلق فوضى سياسية واجتماعية قوامها نشر العنف والسلب وعدم الاستقرار.

رأى الشعب المصري في الزعيم التاريخي أحمد عرابي، وقادته من المصريين، أملاً في أن تعود مصر للمصريين، وظل هذا الأمل يراود القوى الوطنية منذ أن أُحبِطَت حركة عرابي، وتم نفيه إلى أن توحدت الأمة تحت قيادة سعد زغلول، وظهور حزب "الوفد" (1918).

صاحب هذا النمو في الوعي الوطني، والمطالبة بالاستقلال، بل وكان من أهم بواعثه، منابر صحفية عدة بقيادة أعظم مفكري مصر في النصف الأول من القرن العشرين، من أمثال محمد عبدو، وأحمد لطفي السيد، وقاسم أمين، قبل أن تنتقل الشعلة إلى طه حسين، ومحمد حسين هيكل، والعقاد، وأخيراً وليس آخراً، سلامة موسى.

كان سلامة موسى (1887-1958) صحفياً تنويرياً من طراز خاص، فقد اتخذ من الصحافة رسالة ووسيلة ناجعة لنشر الوعي الوطني، فكان مقاتلاً شرساً ضد الهيمنة الإنجليزية، ورائداً من أهم رواد المبادئ الاشتراكية، وداعية للثقافة في مفهومها الحديث في كل ما كَتَبَ، مستهدفاً نجاح شباب الأمة في إيمان لا يتزعزع بإمكانية التقدم والرخاء عن طريق العلم والتصنيع، والعمل الدؤوب على زيادة المعرفة كماً وكيفاً عن طريق المقالة الأدبية التي تميز في كتابتها، بالإضافة إلى عشرات الكتب الشيقة، الداعية للأخذ بعلوم العصر، والاطلاع على أعظم ما انتجه الغرب من أعمال أدبية، تخاطب وجدان الشباب، في مصر والأمة العربية، بعرض أمثلة حية لسير العظماء، من المفكرين والأدباء والثوار، من أمثال المهاتما غاندي، وليو تولستوي، وفريدريك نيتشة، وكارل ماركس، وآخرين ممن اعتبرهم سلامة موسى أبطالاً يحتذى بهم، ونماذج حية للقدرات البشرية الفذة، التي نجحت في السمو على الصعوبات والتحديات، ويدين لها العالم أجمع فيما وصل إليه من رقي حضاري في حركة تطور الإنسانية الدائم، نحو عالم حر مستقل، يقاوم الظلم والاستعباد في سعيه إلى الأخوة والرخاء، ليصبح الإنسان جديراً بإنسانيته.

ولد سلامة موسى بقرية بهنباي، القريبة من الزقازيق، لعائلة قبطية، ميسورة الحال، إذ كان والده الذي عمل موظفاً بالحكومة يقتني عدة أطيان زراعية. لا يكاد سلامة موسى يذكر والده الذي توفي بعد مولده بسنوات قليلة. والتحق موسى بمدرسة قبطية، قبل أن ينتظم بالدراسة بمدرسة لعلها الوحيدة بالزقازيق، ومنها إلى القاهرة، حيث التحق بالمدرسة التوفيقية، التي كانت اشبه بالثكنة العسكرية منها إلى المؤسسة التعليمية، قرر إثرها أن يتولى بنفسه رحلة تثقيف ذاتية، خاصةً وأن أصوله القبطية كانت تمنعه من الالتحاق بالأزهر أو دار العلوم.

قرر موسى، ولمّا يتم التاسعة عشر من عمره، السفر إلى أوروبا، وبالتحديد إلى فرنسا، لينهل من علمها وفكرها وفلسفتها، ما يؤهله للقيام بالمهمة الأساسية التي وهب من أجلها عمراً بأكمله. وأبهرت باريس الشاب القادم من الشرق بمظاهر التقدم الحضاري العظيم، الذي أدى إليه تراكم معرفيّ منذ عصر النهضة. وليس بالمصادفة، إذاَ، أن المفكر الشاب كان أول من صك كلمة "ثقافة" في اللغة العربية كمرادف لكلمة culture باللغات الأوروبية. وأدرك موسى، منذ الأشهر الأولى، أهمية الحرية السياسية، أهم ثمار الثورة الفرنسية، التي كان لفكر جان جاك روسو وكتاباته أكبر الأثر في التبشير بها والدعوة إليها.

رأى سلامة موسى في مكتبات باريس وجرائدها اليومية، ومجلاتها ودورياتها، بالإضافة إلى متاحفها ومؤسساتها التعليمية، دوراً رئيسياً وحافزاً لإجادة اللغة الفرنسية، التي رآها كنافذة للفكر بلغت حداً من الرقي، ما كانت اللغة العربية قادرة على احتوائه، أو التعبير عنه، ناهيك عن محاورته والتفوق عليه.

اهتم موسى، كمصريّ أصيل، بأحدث ما توصل إليه علم المصريات في فرنسا، لتصبح تنقيباً عن تراث حضاري أصيل، تمنى أن يستكمله المصريون دعامة لنهضتهم. وتعرف سلامة موسى على كتابات كارل ماركس وفريدريك انجلز، أهم رواد الفكر الإشتراكي، وتعلم عنهما مبادئ المادية الجدلية، والصراع بين الطبقات، والحلم بمجتمع عادل يعطي كل ذي حق حقه، وفقاً لامكانياته ومساهمته في العمل من أجل الوطن.

بعد ثلاث سنوات من الإقامة في فرنسا، انتقل موسى إلى إنجلترا، حيث كان ينتوي الحصول على ليسانس الحقوق، إلا أنه قد انصرف كليةّ بنهمه الشديد للقراءة، فتعمق في دراسة أعمال العالم البريطاني الكبير تشارلز داروين، أول من نادى بنظرية النشوء والارتقاء، بل وأثبتها علمياً عن طريق الحفريات وتجميع نماذج حية لكائنات بيولوجية من شتى أطوار التطور، من كائنات وحيدة الخلية وصولاً إلى الإنسان عبر ملايين السنين. ومن "أصل الأنواع" لداروين، انتقل موسى إلى الصياغة الفلسفية لنظرياته عند سبنسر عن الارتقاء الجنسي، والتنافس بين الأنواع، والصراع من أجل البقاء، والبقاء للأصلح.

مثلت نظرية داروين ركناً هاماً من أركان فلسفة موسى، تطورت بعد لقائه بشبلي شميل، وتأسيسهما لصحيفة أسبوعية عام 1914 باسم "المستقبل". إلا أن الصحيفة سرعان ما أغلقت بعد عدد قليل من الإصدارات، واعتبرت لوناً من ألوان الهرطقة والتبشير للإلحاد. ساهم موسى أيضاً في تأسيس أول حزب اشتراكي مصري عام 1921، لاعتراضه على الخط الحزبي الشيوعي المؤيد للثورة البلشوفية، التي كان لموسى تحفظات كبيرة عليها.

تمايزت كتابات موسى الأولية، ومقالاته، بنبرة عالية الارتفاع، تصادمية الاتجاه، محدثة انفجارات فكرية لروح ثورية، تملكته، بل وسيطر عليها جنوح الشباب والرغبة العارمة في التأثير على التيارات الفكرية التي سادت البلاد، فخلق عداوات مع الكثير من المفكرين والنقاد. وكان موسى، بهذا المدخل، قد وقع أسيراً لفكر الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشة، الذي هاجم في كتاباته التعاليم المسيحية، واصفاً إياها بالضعف والخنوع ليستبدلها بفكرة الإنسان القوي، الذي أسماه بالسوبرمان، محققاً نقلة نوعية في تاريخ الإنسانية الحديث.

كان السوبرمان عنوان أول كتاب لموسى، ثم تلاه بدراسة عن نشوء فكرة الإله وتطورها، اقتبسها من عالم الأنثروبولوجيا فريزر في "الغصن الذهبي". وهوجم موسى – كما كان يتوقع – من كبار المفكرين من أمثال عباس محمود العقاد، ومصطفى الرافعي، وغيرهما الكثيرين. واتُهِمَ سلامة موسى بالإلحاد حيناً، والشيوعية حيناً آخر، والعداء للعربية والإسلام كمسيحي متطرف في أحيان أخرى.

كان موسى – بل وظل – طوال عمره، معادياً للريف، بنمط انتاجه البطيء، وتمسكه بعادات وتقاليد بالية، وانصرافه عن الحياة الدنيا والكفاح اليومي، لاكتفائه بالغيبيات والأسئلة الميتافيزيقية، التي لم يكن موسى يرى طائلاً من اثارتها. وحيث أن موسى كان مؤمناً باستقلال المرأة ومروجاً له، وضرورة التعليم المختلط، ورفضه لفكرة أن الأنثى ما خلقت إلا لخدمة الرجل، سبباً آخر في انتقاداته لما اعتبره تزمتاً وانحيازاً لا يستند لمنطق أو فكر حديث.

ولعل موسى كان من أوائل المدافعين عن حقوق المرأة في إدانة ختان الإناث، ورأى فيها جريمة بربرية تلحق بالفتاة الصغيرة أكبر الأضرار النفسية، بل والصحية، التي قد تتهدد حياتها، وتترك آثاراً سلبية يستحيل التغلب عليها باقي عمرها.

ومن أكبر مميزات سلامة موسى كمفكر مستقل، أنه تحول من الإعجاب غير المشروط بأستاذه الفيلسوف الألماني، بخطورة نتائج مثل هذا الفكر العنصري النخبوي المتعالي، بل وسهولة استخدامه لتبرير العنصرية والفاشية، كما اتضح جلياً في تبني هتلر وموسوليني، وتسبب في أكبر دمار حل بالبشرية منذ نشأتها خلال الحرب العالمية الثانية.

كان موسى أثناء اقامته بإنجلترا، شديد الإعجاب بكتابات ومسرحيات الكاتب الكبير جورج بيرنارد شو، بل وسعى إلى الالتقاء به، واتخاذه صديقاً. ورحب الكاتب الكبير بهذا الشاب المصري، واعجابه المنقطع النظير، لإدانة شو للسلوك الإنجليزي البربري، في حادثة دنشواي، وشجعه على الانضمام إلى الجمعية الفابية التي نادت بتحقيق الاشتراكية الديمقراطية الإصلاحية عن طريق صندوق الانتخاب، وزيادة الوعي الجماهيري، والتي اتاحت لموسى أيضاً التعرف على الروائي الإنجليزي هـ.ج. ويلز، المؤمن بالتقدم العلمي والاشتراكية والأدب الحديث في آن واحد.

وكان لمعرفة موسى بشو مدخلاً إلى المسرح الحديث الذي ابتدعه هنريك ابسن، وكان لمسرحيته الشهيرة "بيت الدمية" بمثابة دعوة فنية لحرية المرأة، سرعان ما انتشرت بأوروبا، وعاد بها موسى إلى مصر. وفي عام 1930، وبعد رئاسته لتحرير مجلة "الهلال" عام 1923، أسس موسى "المجمع المصري للثقافة العلمية"، كمنبرِ للثقافة العلمية المعاصرة وداعياً لها. وتبنى موسى من خلال كتاباته أسلوباً بديلاً يسعى للتحرر من قواعد الفصحى، ويقترب من العامية، وهي لغة الشعب، بعيداً عن التقعر والجمود الذي ساد الأدب المصري، ونجح في توسيع دائرة قرائه ومريديه.

نجح سلامة موسى خلال ستة عقود من المشاركة البناءة في خلق مجال ثقافي عام، منفتحاً على الغرب، داعياً شباب أمته للانخراط في العمل الثقافي، مؤمناً بأصالته الفرعونية، آملاً في مستقبل تسوده الحرية والعدالة، متطلعاً إلى نظام اشتراكي، إن لم يتحقق في الغد القريب، فهو آت لا محالة.

 

بيروت، 14 مارس 2021


Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

Article المقال ( Septembre )

Article المقال ( Octobre )

Article المقال ( Septembre )