Article المقال ( Février )
كسر حاجز الصمت في
"حظر تجول"
بقلم : جيلان صلاح سلمان
من النادر أن نجد فيلماً مصرياً حداثياً يتحدث عن هموم ومشاكل البشر الحقيقيين، فالأفلام إما كوميدية أو أكشن على الطريقة الهوليوودية التي تلغي الفِكر، ولا تدعك تقف أمام الفيلم طويلاً بعد ظهور شريط النهاية، وذكر أسماء الأبطال والعاملين.
لماذا أحببت حظر تجول؟
لكن هذا ما فعله فيلم أمير
رمسيس الأخير "حظر تجول" والذي لا أنكر كوني متحمسة له، ربما لأنه تلميذ
يوسف شاهين الأنجب، أو لأنه ينتمي لسينماي المفضلة سينما الـ auteur الذي يغزل حكاياته بنفسه، ويقدر
على التعبير عنها بصرياً، لكن حظر تجول فاجأني، لم أكن أتوقع أنني سأحبه، ربما
لأنني لا أحب ضجيج المهرجانات واللقاءات التي تُقام على هامشها للاحتفاء بفيلم ما،
لكن "حظر تجول" جذبني عندما أخبرني أبي أنه شاهد منه نصف ساعة وأعجبه،
وعلاقة أبي بالسينما الحداثية حدث ولا حرج، فهو مازال عالقاً في جمالية سينما محمد
خان وداوود عبد السيد، وإذا لم يحرك الفيلم وتر ما داخله فإنه يتوقف عن متابعته
دون أدنى ندم.
شاهدت الفيلم بدافع تشجيعي من أبي، وهالني أنني انجذبت لعالم فاتن وابنتها ليلى الأخطبوطي على ضيقه، هذا العالم الضيق، محدود الزوايا كان غولاً ابتلعني، وجدتني أتأمل فاتن، هذه المرأة المدهشة المخيفة التي حولها السجن من مدرسة وسيدة فاضلة إلى امرأة تترك مشاعرها على السطح وتعبر عن رغباتها دون التفات لأثر ذلك على من حولها. أبهرتني ليلى –أمينة خليل التي مازالت تحمل الكثير في عبائتها- المرأة المسكينة التي لتحمي نفسها من وقع صدمة بشعة على روحها وإنسانيتها، محتها من ذاكرتها، ووجهت طاقة عنفها لأول طرف ضعيف تقابله أمامها، أمها الضحية مثلها، لكنها بفعل قهر المقهور حولتها إلى جاني.
فاتن – حارسة النار المقدسة
خرجت فاتن من السجن لا مسكينة
منهزمة، بل فخورة بما اكتسبته في ذلك العالم، تتحدث عنه بأريحية، وتباهي بحياتها
فيه، وفي خضم صراع الحقيقة المرعبة للخروج من النفق الذي خبأته ليلى فيه، ظلت فاتن
تحمل هذا السر بين ضلوعها مثل عذارى هيستيا اللاتي كرسن حياتهن لحماية النار
المقدسة، وكأنما في خروجه للنور هلاكها، حتى لو كان في هذا انتصار لبرائتها.
هذه الحكاية عن صمت وألم
النساء، تحمل بين ثناياها الكثير، يغلف أمير رمسيس حكايته ببراعة بجو حظر التجول
في عام 2013، حيث الجميع محبوسون في حيواتهم الضيقة المكررة، لكن عودة فاتن المرأة
الجريئة التي قررت كسر حاجز الصمت والقهر وتخلصت من نبت شيطاني نما في مجتمعها
الصغير، فدفعت الثمن كما تدفع النساء المتمردات دائماً ثمن تمردهن على البطريركية
والتواطؤ معها، إما بالإعراض، أو الصمت، أو القهر المضاد والموجه نحو المقهور. وفي
حالة فاتن، حملت هي عبء هذه الجريمة على صدرها، فخرجت وقد أصبح لها درعاً قوياً
تواجه به عالم، ولا تقوَ على انتزاعه وإلا تموت. كانت فاتن هي المحفز الذي غير
مجرى الأحداث، فمنحت سوستة مغامرة في ظل ملل الحظر، وساهمت في إزالة بعض حواجز
كانت بين ليلى وزوجها، وربما كانت –أو ستكون-
نجح أمير رمسيس في أن يجعلنا
نتعاطف مع ليلى وفاتن، كان يمكن أن تجنح الأولى نحو التقريرية المملة، لكن براعته
في رسم شخصية امرأة مسكينة، وسيلتها الوحيدة لحماية نفسها من ماضي مؤذي كانت
بمحوه، واتجاهها لقهر امرأة أخرى مثلها؛ أمها. حتى فاتن، كان يمكن لامرأة مثلها،
خرجت من السجن كتلة من المشاعر غير المحكومة ولا المروضة أن تصبح فاصلاً كوميدياً
أو خطاً شعورياً مبتذلاً، لكنها بين يدي كاميرا أمير رمسيس الواعية خرجت ناضجة
وحنونة، تشعر وكأنك تود لو ربتت على كتفها، لكنك توقن من أنها لن تشعر بحنانك
للأسف، فما سرقته منها الحياة كان أكبر من أي شعور تعويضي.
اختيار مصر 2013 بالذات لهذا
الفيلم شديد الذكاء، كونها كانت في أحلك فترات التخبط بالذات للمواطن العادي، هو
في خضم تيه هائل لا يعرف له أول ولا آخر، وكذلك شخصيات الفيلم فاتن وليلى. هاتان
المرأتان اللتان نجحت آخر سلالاتهما الطفلة دنيا في التقريب بينهما ولو بدون قصد.
قررت المرأتان النظر للأمام، وعدم الخوض في ماضي ستبقى جراحه مهما مر الزمن.
ميزة فيلم "حظر تجول" هو أنه لا يجمل الحقيقة، لا شيء يمحو قسوة سنوات السجن، لا شيء يعوض الفقد، ولا الظلم، والدليل مصير الجار يحيى البائس، والذي لم يحتمل كل هذه القسوة التي ظن أنه اعتاد الحياة في كنفها لسنوات. ترك أمير فيلمه مفتوحاً، كما الحياة، بلا لحظات تنوير أو مواجهات بائسة، بقينا في خضم الحيرة والتخبط، هل ستتذكر ليلى؟ هل ستفتح فاتن خزينة أسرارها المختومة بالشمع الأحمر والمدفونة في قاع المحيط؟
حظر تجول فيلم
إنساني عن القسوة
يستكمل أمير رمسيس مسيرته
الفنية في السماح لنا بأن نضع أنفسنا مكان الآخر، منذ "يهود مصر"
ومروراً بـ "بتوقيت القاهرة" ووصولاً إلى "حظر تجول" وهو
يحاول أن يجعلنا نفهم؛ لماذا فعل غيرنا ما فعل؟ وهل كنا نفعل مثله لو كنا مكانه؟
لا يجعل الأمر سهلاً على المشاهد، ولا يترك راحة في نفسه بعد مشاهدة أفلامه، لكنه
يحرك شيئاً ما، يضغط على موضع الألم بقصد، لا رغبةً في الإيذاء ولكن محاولةً منه
لتحريك مياه السينما الراكدة.
له التحية، ولروح أستاذه
العظيم يوسف شاهين السلام.




Commentaires
Enregistrer un commentaire