Article المقال ( Décembre )








فجر الرواية الإنجليزية



         رواية "كلاريسا" لصامويل ريتشاردسون (5/5)

 

 

 


بقلم : أ.د. عصام الدين فتوح

أستاذ الأدب الإنجليزى – قسم اللغة الإنجليزية وآدابها

كلية الآداب

جامعة الإسكندرية








 


لا شك أن أنجح الروايات على الإطلاق هي تلك التي تتمحور حول العلاقة المركبة بين الرجل والمرأة، والتي يحتل فيها الحب المحور الرئيس للأحداث في تشابكها بما تحتويه من تناقض بين الشخصيات، وتفاعل اجتماعي، مع عالمها الروائي المتدرج من العائلة إلى الطبقة الاجتماعية، وقد تتلامس مع الأوضاع السياسية للشخصيات الرئيسية.






وتمثل رواية "كلاريسا" (1748) لصامويل ريتشاردسون، البداية الحقيقية لهذا النوع الروائي، وتنجح في أن تحقق أعلى المبيعات فور صدورها. وعلى الرغم من أن الرواية تتجاوز الألف صفحة، إلا أن اعجاب قارئات ريتشاردسون كان طاغياً واسع النطاق، فقد أظهرن تعاطفاً غير مسبوق مع البطلة الشابة، وتخوفاً على مصيرها المحتوم، كأول بطلة روائية تصبح شهيدة فاضلة للحب، ورمزاً متجسداً للفضيلة الأنثوية، بما أسبغه عليها ريتشاردسون من واقعية في صراعها المستميت مع عاشقِ خائن من جهة، وعائلة تمتاز بالقسوة والأنانية، مما جعل من تلك البطلة الفريدة أسيرة مجتمع ذكوري، لتصبح بالضرورة بطلة مأساوية.






من الممكن اعتبار صامويل ريتشاردسون (1689-1761) أول كاتب روائي محترف في تاريخ إنجلترا الأدبي، إذ عمل بالطباعة والنشر طيلة حياته، وأنتج ثلاث روايات هي "باميلا"، و"كلاريسا"، و"تاريخ السير تشارلز جرانيسون". وكان صامويل ريتشاردسون أحد تسعة أبناء لعائلة متوسطة الدخل، إذ عمل والده نجاراً، ولم يتمكن أن يمد طفله الموهوب بدراسة جامعية قد تؤهله ليعمل بالكنيسة كما كان الصبي يأمل. إلا أن مسحة من رغبته للتبشير وجدت طريقها إلى جميع أعماله الروائية.

لم يكن ريتشاردسون بميله للقراءة والاطلاع يشارك أقرانه بالدراسة الأولية في الرياضة واللهو، إلا أنه اشتهر بموهبته كحكاء، يعيد صياغة كل ما قرأ، بل ويبتكر حكايات شيقة، يقصها على أترابه على أنها قصص واقعية وتجارب حياتية، كما عرف عنه قدرة فائقة على صياغة الخطابات، فكثيراً ما طالبته المراهقات في الرد على خطابات معجبيهن من الجنس الآخر. والخطاب الأدبي كان يعتبر في القرن الثامن عشر لوناً أدبياً، فلا عجب، إذاً، أن اتخذت جميع رواياته شكل الخطابات المتبادلة بين أبطاله وسائر الشخصيات.







واختار ريتشاردسون، بميوله الأدبية، الطباعة والنشر كمهنة احترفها كصبي لناشر كبير، تزوج ابنته فيما بعد ليتولى إدارة مطبعة ودار نشر عمل بها بقية حياته، وتطور مشروع ريتشاردسون لكتابة مجموعة من الخطابات النموذجية للفتيات إلى أن أصبح موضوع روايته الأولى، وبطلتها خادمة تتمتع بأخلاق حميدة، فتنجح في صد محاولات مخدومها المتكررة للنيل من شرفها، بل وتكون سبباً رئيسياً في توبته، واقدامه على الزواج منها.

على الرغم من شعبية رواية "باميلا"، أولى روايات ريتشاردسون، واعتبار الكثير من النقاد أنها أول رواية إنجليزية تستكمل شروط هذا اللون الجديد من الأدب، إلا أنها ظلت قاصرة عن استيفاء طاقات ريتشاردسون الإبداعية. فجاءت رواية "كلاريسا"، التي عكف ريتشاردسون على كتابتها لثلاث سنوات على الأقل، لتصبح أعظم وأطول عمل روائي شهدته إنجلترا في هذا التاريخ من ثمانية أجزاء، تابعها الآلاف من القراء بشغف، واشتياق، جزءاً بعد جزء.








وشخصية كلاريسا، بطلة رواية ريتشاردسون كانت، ولا زالت، محط اعجاب قراء تلك الرواية الكلاسيكية على الرغم من بساطة حبكتها الدرامية. فتنتمي بطلة ريتشاردسون إلى الطبقة المتوسطة، ولكنها تمتاز عن جميع أفراد عائلتها بالثقافة الرفيعة، وقدرتها الفائقة في التعبير عن مشاعرها، كما يبدو جلياً في كل ما كانت تكتب من خطابات. وواجهت كلاريسا ضغوطاً عدة من عائلتها، فرادى ومجتمعين، لتقبل فكرة الزواج من روجر سولمز – عريساً لها – لثرائه، وإمكانية الارتقاء بالعائلة جمعاء إلى طبقة اجتماعية أرفع مما هي عليه. أما بطل الرواية، المخادع الملاوع، لافليس، فيقدم نفسه إلى البطلة، كفارس أحلام، والمنقذ الوحيد من المصير المحتوم الذي كان يتهدد البطلة، إن انصاعت لرغبات العائلة.

ومن أهم أسباب نجاح الرواية، وتعاطف القارئات مع البطل، هو انعدام أية مساحة روائية لها لتحقيق احتياجاتها العاطفية والفكرية. ولافليس، وإن مثل شخصية الدون جوان، الذي يتشدق بقدراته على اغواء الجنس اللطيف، والايقاع بهن في حبائله، لم يكن ليخلو من صفات مميزة كالثقافة، والثراء، والوسامة، التي شعرت بها قارئات ريتشاردسون تجاهه.







وتكمن عظمة رواية ريتشاردسون في فشل لافليس الذريع في اخضاع البطلة وترويدها، فيعلن افلاسه التام بعد أن كان قد اغتصبها بعد تخديرها، طالباً منها العفو والقبول به زوجاً، متلقياً صفعة حياته. وتتعملق كلاريسا بعد أن كادت تصاب بانهيار عصبي بعد خيانة لافليس، فتلفظ الحياة، وتمتنع عن الطعام، إلى أن تقضي، مثالاً للعفة الأنثوية. أما شرير الرواية، فلا يعمّر طويلاً بعد وفاة كلاريسا، إذ يقضي هو الآخر بعد مبارزة مع أحد أقرباء كلاريسا.

كان ريتشاردسون مدركاً خلال كتابته لتلك الرائعة الأدبية، من أنه يسطر لوناً أدبياً جديداً، قدر له أن يصبح أكثر الألوان الأدبية شعبية ورواجاً. وباستكمال ريتشاردسون لمشروعه الأدبي الرائد، وإعلانه الرسمي عن ميلاد الأدب الروائي، واقبال جميع جماهير القراء عليها، أقبل العشرات من الكتاب على الاستثمار في الرواية وتنقيحها إلى أن أصبحت ما هي عليه الآن: أحب الأجناس الأدبية في العصر الحديث.

 






 

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

Article المقال ( Septembre )

Article المقال ( Octobre )

Article المقال ( Septembre )