Article المقال ( Décembre )







فجر الرواية الإنجليزية


    رواية "روبنسون كروسو" لدانيال ديفو (3/5)

 

 

بقلم : أ.د. عصام الدين فتوح

أستاذ الأدب – قسم اللغة الإنجليزية وآدابها

كلية الآداب

جامعة الإسكندرية










 

تعود أهمية رواية "روبنسون كروسو" لكاتبها دانيال ديفو، ليس لكونه أبو الرواية الإنجليزية، كما أطلق عليه النقاد، بما أن مصطلح "الرواية" the novel لم يكن قد استحدث بعد، بل لأن هذا العمل الأدبي المتفرد نجح في اجتذاب ملايين من القراء على مدار ثلاثة قرون، داخل إنجلترا وخارجها. وقد خلق ديفو خليطاً مبتكراً من الاجناس الأدبية، مثل السيرة الذاتية، والمقال الصحفي، وأدب الرحلات، والمواعظ الدينية، بأسلوب أدبي شيق، حقق للكاتب نجاحاً لم يكن ليحلم به، وحققت مكاسب الرواية أعلى مرتبة بلغها في حياته، إذ تأرجحت حظوظه بين المكسب والخسارة، على مدار عمر حقق من خلاله شهرة واسعة الآفاق، وتجرع فيه الفاقة، وذاق مرارة السجن، ومطاردة الدائنين.







ولد دانيال ديفو عام 1660، وهو عام حاسم في تاريخ إنجلترا. ففي ذلك العام استعادت إنجلترا النظام الملكي The Restoration، وعاد تشارلز الثاني من منفاه في فرنسا. وينتمي ديفو إلى عائلة برجوازية بمدينة لندن، تعتمد التجارة، والبيع والشراء، مصدراً أساسياً لدخلها، وكانت العائلة قد انضمت إلى الطرف الخاسر (البرلمان) أثناء ثورة كرومويل، وأيدت الحكم بالإعدام على تشارلز الأول، لاستبدال النظام الملكي بنظام عسكري شبه جمهوري.






وكانت العائلة تقليدياً تنتمي إلى الكنيسة المشيخية (Presbyterian Church) المنبثقة عن تعاليم كالفن Calvin، وبالتالي لا تعترف بالكنيسة الأنجيلية الرسمية، برئاسة ملك إنجلترا. فعمل والد ديفو بتجارة الشمع وتصنيعه، فكان منتمياً إلى الطبقة المتوسطة، التي كان من المقدر لها أن تلعب الدور الأساسي في إرساء قواعد حضارة جديدة، تختلف عن الأرستقراطية الإنجليزية التقليدية، المساندة للملك (Tories). وكانت الطبقة البرجوازية قد لعبت دوراً أساسياً في تحول النظام الاقتصادي الإنجليزي من اقطاعي زراعي، إلى تجاري توسعي مادي، مهد الطريق للدور الاستعماري الاستكشافي الذي لعبته إنجلترا في القرنين الثامن والتاسع عشر، منافسة لأسبانيا والبرتغال وفرنسا، في حركة استكشافية أوروبية، استهدفت العالم الجديد المكتشف حديثاً، بل وشملت دول آسيا وأفريقيا من العالم القديم، وذلك بالاعتماد على سلاح بحري قوي، وتجارة للبشر في صورة عبيد، فكانت أساساً لازدهار الاقتصاد الإنجليزي.






لم يتمكن ديفو من تحقيق أمله بالعمل في السلك الكنسي، إذ مُنِعَ – لانتمائه الديني – من الالتحاق بالجامعات الرسمية المؤهلة لذلك، مما اضطره لممارسة التجارة مثل والده، فعمل على الاتجار بالملابس الداخلية والجوارب، في تجربة لم يكتب لها النجاح. واعتمد ديفو على الكتابة في الترويج لآرائه السياسية والاجتماعية والدينية، مما جرى عليه بالكثير من المشاكل، بل وأودى به إلى السجن، إلا أنه أنتج خلال مالا يتجاوز السبع سنوات، أعظم أعماله الأدبية، التي تمثلت في "روبنسون كروسو"، و"مول فلاندرز"، و"روكسانا"، بالإضافة إلى تسجيل وثائقي لمأساة الطاعون الذي عصف بمدن إنجلترا قبيل ميلاده.

ظهرت رواية ديفو عام 1719، ومن الطريف أن نلاحظ أن المؤلف لم يذكر اسمه مطلقاً على غلاف هذا العمل الأدبي، بل فضل أن يزعم أن كاتب الرواية هو روبنسون كروسو ذاته، مما أدى بالكثير من القراء إلى الإيمان بأن روبنسون كروسو هذا شخصية حقيقية، مستوحاة من الواقع، شأنه في ذلك شأن الكثير من أبطال الروايات الإنجليزية الأولى. فأورونوكو، وجاليفر، ومول فلاندرز، وكلاريسا، ليسوا من نسج خيال مؤلفيهم الروائيين، مما سهل في الوقت ذاته التعاطف مع هذه الشخصيات كنماذج من الحياة. 






وفي أقل من عام، ظهرت أربع طبعات من رواية "روبنسون كروسو"، مما يعكس شعبيتها باعتبارها سجلاً لسيرة حياة بحار من الطبقة المتوسطة، تشاء الأقدار أن ينجح في البقاء على قيد الحياة، بل ويخلق عالماً جديداً خلال ثمانية وعشرين عاماً، قضاها في جزيرة نائية ما بين سواحل فينزويلا وترينيداد. ولعل تجربة ألكسندر سيلكيرك، البحار الأسكتلندي الذي قضى أربع سنوات بجزيرة في شيلي، أطلق عليها جزيرة روبنسون كروسو عام 1966، كانت أهم مصدر لمغامرات بطل رواية ديفو.






أما المصدر الثاني لقصة روبنسون كروسو، فهو مجموعة تأملات فلسفية، سجلها ابن طفيل في نص سردي أطلق عليه اسم "حي بن يقظان"، متناولاً حياة بطله المتصوف بجزيرة نائية، متخذاً من منفاه وسيلة لارتقاء السلم الإنساني المعرفي، بغية الوصول إلى الذات الإلهية.

وقد نجح ديفو في "روبنسون كروسو" في سرد مغامرات بطله، الذي يتمكن بعد طول عناء من إقامة حياة مستقرة، بل وفي إرساء مبادئ لخلق حضارة، بحسن استغلال كل موارد الطبيعة القاسية والسيطرة عليها، بل وتعدى روبنسون كروسو مجرد القدرة على البقاء، بعملية إنقاذه فرد من قبيلة كاريبية آكلة للحوم البشر – من صنع خيال المؤلف – واتخاذه منه عبداً لتلبية كل احتياجاته ومطالبه.





فبينما رأى ديفو في بطله نموذجاً للإنسان الفرد، أو آدم جديد قادر على تطويع الطبيعة لخدمة احتياجاته المعيشية، إلا أن ديفو قد أضفى على ذلك البطل جميع الصفات المميزة للبرجوازية الإنجليزية في نهمها لاستكشاف العالم الجديد واستعماره، وهو ما حققته بالفعل، بل وفي إرساء أسس العلاقة بين الفرد الإنجليزي المسيحي، والآخر العرقي على أنها علاقة السيد بالعبد، عن طريق أهم وسيلتين استخدمهما الغرب في فرض سيطرته السياسية والاقتصادية والاجتماعية على الآخر، ألا وهما السلاح والتبشير بالدين الوحيد الذي لا يعترف بغيره.

وتعتبر تلك الرواية من أشهر الروايات العالمية في التاريخ الادبي المعاصر، بل وأصبحت رافداً أساسياً للعشرات من الروايات الأدبية والتمثيليات الإذاعية والتلفزيونية، وعالجتها هوليوود في العشرات من الأفلام. ولم يكن دانيال ديفو يحلم بالشهرة العالمية، والشعبية الجارفة، التي حاز عليها هذا العمل، الذي ترجم إلى معظم لغات العالم، وأمسى مثالاً يحتذي به مئات الروائيين لعدة قرون، ومصدراً لمتعة الملايين من عشاق الخيال الأدبي، والرواية في مفهومها الحديث.

وقد أثارت رواية "روبنسون كروسو" حفيظة الكاتب الأيرلندي الساخر جوناثان سويفت ودفعته إلى خلق بطل بحار مماثل في شخصية جاليفر، الذي عمل طبيباً بإحدى السفن الإنجليزية، قبل أن يصبح قبطاناً لأخرى، في رحلاته إلى أربع من بلاد العجائب، نافس بها بطل ديفو في رواية تمثل الحلقة القادمة من هذه السلسلة من المقالات.







 

 

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

Poème ( Avril )

Poème ( Avril )

La Nouvelle القصة القصيرة ( Octobre )