Article المقال ( Décembre )
فجر الرواية الإنجليزية
رواية "أورونوكو – العبد الملكي" لأفرا بين (2/5)
بقلم : أ.د. عصام الدين فتوح
أستاذ الأدب – قسم اللغة الإنجليزية وآدابها
كلية الآداب
جامعة الإسكندرية
شهدت فترة ما بعد استعادة الملكية Restoration (1660)، ازدهاراً في العلم
والأدب، تمثل في إعادة فتح المسارح الإنجليزية العريقة، وظهور الفن الصحفي
وانتشاره، ليشمل الطبقة المتوسطة الوليدة التي لم تكن تقرأ فيما سبق نظراً لتفشّي
الأميّة، وظهور ما أطلق عليه هابرماس الحيز العام Public Sphere، الذي ضم أمور الدنيا والسياسة
وانتشر عن طريق المقاهي والأندية الأدبية، فلم يكن لهذا الخطاب العام وجود في
السابق، بينما أتاح ظهور المقاهي مجالاً جديداً لمناقشة ما كان ممنوعاً ومحرّماً
علناً. وارتبط هذا بالمرأة كقارئة، فقد تضاعف عدد القارئات خلال المئة عام، لتصبح
من أهم مستهلكي فن الرواية.
ويطلق مؤرخو الأدب على دانيال ديفو لقب الوالد المؤسس
للرواية Father of the
Novel، إلا أن محاولات ديفو الروائية لم تكن هي الأولى، بل سبقها
محاولات الكاتبة أفرا بين Aphra
Behn التجريبية.
وتعد أفرا
بين (1640 – 1689) مثالاً حياً لاقتحام المرأة عالم الأدب والمسرح في إنجلترا، هذا
العالم الذي كان مقصوراً على الرجال فقط لقرون مضت. وكانت أفرا بين أول امرأة
تحترف مهنة الأدب، فقد كتبت الشعر والمسرحية، بالإضافة إلى الترجمة، وكتابة
المقالات.
انتهت أفرا بين من كتابة رواية "أورونوكو" Oroonoko أو العبد الملكي، قبل وفاتها بسنة
واحدة، وطبقاً لروايتها، فقد انتهت من كتابتها خلال جلسة واحدة. ولم تحقق تلك
الرواية نجاحاً باهراً عند ظهورها، ولكنها سرعان ما استحوذت على اعجاب الجمهور بعد
تحويلها إلى مسرحية ناجحة، مما أدى إلى اقبال القراء عليها خلال القرن الثامن عشر.
وعلى مدار
القرن التاسع عشر، قل الاحتفاء بالرواية والكاتبة، التي رأى فيها القرن التاسع عشر
مثالاً للكاتبة الجريئة التي لا تلتزم بالقيم السائدة في العصر الفيكتوري، والذي
كان يتميز بالتزمت الشديد.
وتستوفي
رواية أورونوكو جميع الخصائص المميزة للرواية كنوع أدبي، من ناحية الأصالة في
اختيار الشخصيات الرئيسية في الرواية، وموقع الأحداث، والتطور التدريجي لبطل
الرواية، من أمير نبيل في بلده الأصلي، إلى بطل مأساوي يفضل الموت على العبودية.
وتقدم لنا أفرا بين بطل روايتها أورونوكو على أنه أمير
أسود، يمتاز بالشجاعة، ونبل الأخلاق، والذكاء الحاد، في موطنه الأصلي، على الساحل
الأفريقي، وبالتحديد غانا، وذلك من خلال منظور الراوية، التي اعجبت بمآثر هذا
البطل شبه الأسطوري وأخلاقياته، ونهايته المأساوية على يد أسياده البيض بولاية
سورينام، وهي من مستعمرات انجلترا في العالم الجديد. ومن المفارقات، أن يكون أول
بطل للرواية الإنجليزية نبيل أفريقي أسود اللون. ولعل نقاد الرواية على حق حين
يشيرون إلى أن ملامح أورونوكو من وجه وأنف وتعابير، وتشبيهها بالملامح الغربية
ومقاييس جمالها التي تبعد كل البعد عن السمات الأفريقية، غير واقعية، بل ومن نسج
خيال المؤلفة ذاتها. كما ينطبق هذا أيضاً على بطولات البطل ومآثره في العالمين
القديم والجديد. فشجاعته واقدامه في المواقع الحربية أقرب ما تكون إلى مآثر أبطال
الملحمة الكلاسيكية لدى أخيل أو هيكتور، فمن مآثر أورونوكو في العالم الجديد،
انتصاره على الحيوانات المفترسة كالنمر والثعبان المائي.
ويمتلك
أورونوكو، إلى جانب تلك الصفات، احساساً مرهفاً، تظهره الراوية من خلال قصة حبه
لإيمويندا، جميلة الجميلات، التي يلهث وراءها الرجال، من الامبراطور الأفريقي في
العالم القديم، إلى أسيادها من البيض في العالم الجديد. فالعاشقان، كما تقول افرا
بين، أشبه بالإلهين مارس وفينوس، آلهة الرومان.
وعلى الرغم من اعتماد بريطانيا كقوة اقتصادية كبرى على
تجارة العبيد، ونقلهم وبيعهم في مستعمرات العالم الجديد، إلا أن الراوية تنجح في
اظهار خسة تاجر العبيد، الذي يخدع أورونوكو باستدراجه إلى المركب كضيف وصديق، حيث
يتم أسره. ويتساءل أورونوكو عن أخلاق الرجل الأبيض وقيمه، بل ودينه، واستحالة
الوثوق بكلمته أو شرفه. وتظهر الراوية اعجاب أسياد المجتمع الإنجليزي في العالم
الجديد وسيداته، وتقديرهم لأخلاقيات أورونوكو ومثالياته. ويلتقي أورونوكو
وايمويندا في موطنهما الجديد، وبمجرد معرفة البطلين أن ايمويندا حامل، وأنها على
وشك أن تضع وليداً، حتى يبدأ أورونوكو في الإعداد للثورة، فلم يتمكن البطلان من
تصور ولادة طفليهما في ظل العبودية. وينجح أورونوكو في استثارة العبيد إلى الثورة
على مالكيهم، ويحفزهم بشعاره أن الموت بشرف خير من الحياة في قيود العبودية.
ويعاقب الأسياد البيض أورونوكو بعد أن تفشل ثورته بجلده
بالسياط، ومن ثم وضع الملح في جروحه، ليصبح عبرة للآخرين، ويتم اخماد رغبتهم في
الثورة. ولا يزيد العذاب أورونوكو إلا اصراراً على المقاومة والانتقام ممن أهانوه،
فيقرر في لحظة فارقة ألا يترك زوجته وجنينها فريسة للانتقام من أعدائه، غليظي
القلوب، عديمي الشرف. وتتلقى ايمويندا قراره هذا ببشر وارتياح، إلا أن البطل ينهار
فور انتهائه من قتلها. ويتم تقييد أورونوكو إلى وتد فور اعتقاله، حيث يتم تقطيع
أطرافه والالقاء بها إلى النار في مشهد مهيب، تختتم به أفرا بين تلك الرواية،
الرائدة والفريدة من نوعها في آن واحد.
ومن العجيب
أن تلك الروائية الإنجليزية الأولى، نجحت في أن تتناول موضوعي العرق والتفرقة
العنصرية، بل والإرث الاستعماري المتمثل في تجارة العبيد، في عمل أدبي يتوافق مع
اهتمامات مدرسةٍ من أحدث مدارس النقد الأدبي في القرن العشرين، ألا وهي ما بعد
الكولونيالية. تنجح رواية "أورونوكو"، إذاً، في سبر أغوار لم يتطرق
إليها الأدب العالمي إلا حديثاً باتخاذها العالم مسرحاً لها، ونقدها اللاذع
لمحاولة الرجل الأوروبي في بسط سيطرته على الآخر العرقي من منظور أخلاقي، وإدانة
ضمنية لاستعباد الإنسان لأخيه الإنسان في أي زمان ومكان.
Commentaires
Enregistrer un commentaire