Article المقال ( Décembre )




 



فجر الرواية الإنجليزية

سلسلة مقالات عن نشأة الرواية في إنجلترا (1/5)

 

 

بقلم : أ.د. عصام الدين فتوح

أستاذ الأدب – قسم اللغة الإنجليزية وآدابها

كلية الآداب

جامعة الإسكندرية













 

انتشرت الرواية كلون أدبي مميز، وزادت شعبيتها في القرن الحادي والعشرين، مقارنة بأي لون أدبي آخر، فمع انحسار قراءة الشعر وتذوقه، باعتباره اللون الأدبي الأقدم، ومع منافسة السينما والتلفزيون للفن المسرحي العتيق الذي تمتد جذوره للحضارة اليونانية الكلاسيكية، فإن أبطال الروايات مثل دون كيشوت، وجاليفر، وروبنسون كروسو، قد ترسخت في أذهان القراء في شتى أنحاء العالم، كما أن أسماء مثل تشارلز ديكنز، ونجيب محفوظ، وباولو كويلو، وجابرييل ماركيز، أصبحت تتلألأ بصورة غير مسبوقة في سماء الأدب العالمي، وزاد الإقبال على شراء الروايات واستعارتها، وانتشر تداولها في المكتبات والمطارات، وأقبل على توزيعها بائعو الصحف والمجلات في العالم أجمع.



وعلى الرغم من أن الرواية تعتبر لوناً حديثاً من ألوان الأدب، فقد نجحت نجاحاً منقطع النظير في أن توجد لنفسها مكانة متميزةً، فيما لا يربو عن ثلاثة قرون. وتتناول هذه السلسلة من المقالات، مناقشة الجذور الإنجليزية، والبدايات الأولى للفن الروائي، قبل أن يصبح عاملاً أساسياً ومشاركاً قوياً في تكوين الإنسان الحديث ثقافياً، نظراً لقدرة الرواية الفريدة على مخاطبة وجدانه وعقله وقدرته على الإحساس والخيال.





يرتبط الفن الأدبي بصفة عامة، والفن الروائي بصفة خاصة، ارتباطاً وثيقاً بالحضارة التي أنتجته، فهو يمثل انعكاساً أدبياً للظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي تعبر عنها الرواية أو تعكسها، كما أن الرواية تساهم بشكل غير مباشر، في تشكيل وعي قارئها بذاتيته من ناحية، وبالعالم المحيط به من ناحية أخرى.

ولم يكن نشوء الرواية الإنجليزية في القرن الثامن عشر وارتقائها اعتباطاً، بل كان وليد لحظة تاريخية معينة، ونقطة تحول في التاريخ الأوروبي عامة، وتاريخ انجلترا بصفة خاصة.

وترجع الأهمية الخاصة للقرن الثامن عشر في التاريخ الإنجليزي إلى أنه البداية الحقيقية للحداثة، فقد شهد تفوق الفلسفة الإنجليزية، ممثلة في توماس هوبز (1588-1679)، وجون لوك (1632-1704)، وديفيد هيوم (1711-1776)، كما شهد القرن أعظم انجازات العلم الإنجليزي، متمثلة في نظريات اسحق نيوتن (1642-1727) وقوانينه. ولعل الاستقرار السياسي الذي شهدته انجلترا طوال هذا القرن، عقب القلاقل والحروب الأهلية والثورات، طيلة القرن الذي سبقه، كان له مردوداً عميق الأثر، في الحضارة والفن الإنجليزيين.







وفي خلال قرن من الزمان، تضاعف عدد القراء باللغة الإنجليزية عن بدايات القرن، كما زاد من ظهور عدد المطابع وانتشارها، وبخاصة في لندن، في ازدهار الكتب والمطبوعات، وانخفضت بالتالي أسعارها انخفاضاً هائلاً غير مسبوق، مما أدى إلى ازدياد الطلب على الكتب، وبخاصة الروايات التي اكتسبت شعبية كبيرة من خلال الطبقة المتوسطة الآخذة في النمو، والتي مثلت ولا تزال القاعدة الأوسع لجمهور قراء الرواية.

وبازدهار لندن كمركز للسياسة والاقتصاد الإنجليزي، فقد أعطت الفن الوليد البيئة الخصبة التي ازدهر بها. فالرواية أولاً وأخيراً فن حضري، يرتبط عضوياً بحياة الفرد في المدينة. ولعل ظهور الصحافة كمنبر سياسي واجتماعي وانتشارها، بتركيزه على الحوادث التي تطال الأفراد، والمفارقات التي تتمثل في الثراء السريع أو الإفلاس المفاجئ، باعتبارها موضوعات يقبل عليها القراء في شغف، قد قاربت ما بين الصحافة والرواية.






ولعل زيادة عدد القارئات من الطبقة الوسطى جعلت منهن حاضنات لهذا الفن باعتبارهن كاتبات، وقارئات، ومستهلكات للرواية، ويرتبط هذا العامل الأخير بزيادة أوقات فراغ سيدات الطبقة المتوسطة، بعد أن حلت ظاهرة انتشار الخادمات والمربيات محل سيدات الطبقة الوسطى في أداء الأعمال المنزلية التقليدية التي كن يقمن بها من ذي قبل. تلك الحاجة لشغل أوقات الفراغ جعلت من الرواية سلعة استهلاكية مع بدايات ظهور المجتمع الاستهلاكي في أوروبا.

والفن الروائي أكثر ألوان الأدب قدرة على استغلال كل ما سبقه من ألوان أدبية وتسخيرها، فقد يلجأ إلى السيرة الذاتية، أو النصوص المقدسة، وأدب الرحلات، وقصص عتاد المجرمين والأشقياء، فنرى على سبيل المثال رحلات روبنسون كروسو، وجاليفر، وقد استلهمت قصص ومغامرات أدب الرحلات، الذي انتشر بفضل حركة الاستكشافات العالمية موضوع مجموعة هاكلويت Hakluyt الشهيرة والزاخرة بتلك المغامرات والمحاولات الأولى لاستكشاف المناطق النائية واستعمارها، التي اتخذت من العالم مسرحاً لرواياتها. وفي حين أن مكتبات الأفراد كانت تقتصر على الكتاب المقدس، وبعض سير شهداء الإيمان، إلا أن أبطال الرواية سرعان ما تبوأوا مكان الصدارة على الأرفف. وأخيراً تحولت اعترافات المجرمين، والولع بسبر أغوار دوافعهم إلى موضوعات أدبية لأول مرة في التاريخ، فنلتقي مول فلاندرز، بطلةً لرواية تحمل اسمها، على الرغم من سمعتها وسيرتها التي شابهها العار، باعتبارها امرأة ساقطة ولصة، تفتحت عيناها على الحياة في غياهب السجون. كما تناولت الرواية بشغف حياة الصعاليك والخادمات والمعدمين على عكس الألوان التقليدية مثل التراجيديا والملحمة التي قصرت اهتمامها على الملوك والأباطرة والقادة العظماء والنبلاء، دون أن تلامس تصوير وتمثيل حياة الفقراء والمهمشين.

*     *     *

بالرغم من حداثة الرواية الإنجليزية النسبية كنوع أدبي، مقارنةً بالألوان الأدبية الأخرى كالمسرح الإنجليزي العريق، الذي تمتد جذوره إلى عصر النهضة، وتميزه الواضح الفائق في أعمال شيكسبير وبن جونسون في نهايات القرن السادس عشر وبدايات القرن السابع عشر من ناحية، والتواجد المميز للملحمة منذ نشأتها في الآداب الكلاسيكية، عند هوميروس وفيرجيل من ناحية أخرى، إلا أن فن الرواية الإنجليزية احتل مكانة الصدارة منذ ظهور الروايات الأولى لأفرا بين Aphra Behn، وجوناثان سويفت، ودانيال ديفو، وهنري فيلدينج، ومروراً بالعصر الذهبي للرواية الإنجليزية في أعمال ديكنز وجورج إليوت في القرن التاسع عشر، وجيمس جويس ولورانس وكونراد في القرن العشرين، وصولاً إلى الروائيين المتميزين للقرن الحادي وعشرين، مثل أيان ماك ايوان وهيلاري مانتل وسلمان رشدي، التي تتم ترجمة أعمالهم إلى أكثر لغات العالم، وتحظى بشعبية هائلة لدى القرّاء من كل جنس ومختلف الأعمار، لدرجة غير مسبوقة تاريخيّاً وأدبيّاً.

ونتناول في هذه السلسلة من المقالات، البدايات الأولى لهذا الفن الرفيع، الذي أخذ من كل الفروع الأدبية السابقة عليه، أهم مميزاتها، فأخذ أساليب السرد المختلفة عن الملحمة الكلاسيكية، ولغة الحوار عن المسرح، كما اتخذ من الكتب المقدسة مخاطبة الوجدان والسمو بالمشاعر الإنسانية للقارئ.

بدأ هذا الفن عملاقاً منذ أن نشأ، بالرغم من عداء الصفوة الأدبية، من أمثال سويفت ودرايدن وبوب وجونسون، الذين رأوا في النثر الأدبي انتقاصاً للّغة الشعرية التي تميزت أغلب أعمالهم الأدبية والنقدية بها، كما رأوا في جمهور القراء من الطبقة المتوسطة والدهماء دليلاً على دونية كتّاب الرواية، عن أولئك المثقفين الذين تميزت أعمالهم بدراسة موسوعية للآداب الكلاسيكية بقيمها الإنسانية الراقية، التي تصلح لكل زمان ومكان.






ومن ناحية أخرى، ترتبط نشأة الرواية الإنجليزية بالدور المحوري للقرن الثامن عشر، وما سمى بحركة التنوير في انجلترا، بل وفي أوروبا عامة، وببدايات الحداثة التي ميزت هذا القرن، والتي استمرت إلى يومنا هذا. فشهد عصر التنوير ظهور الفكر العلمي الحديث، والذي لعبت فيه انجلترا دوراً أساسيّاً، بظهور إسحق نيوتن، واكتشافه لقوانين الجاذبية والحركة، وعلم البصريات الحديث، والرياضيات بصفة عامة. كما يؤرخ للنظريات السياسية الحديثة عادةً، بظهور مفكرين من أمثال توماس هوبز، وجون لوك، وكتاباتهم التي أرست لفكرة العقد الاجتماعي وأصلت لها، كأحد أهم مبادئ السياسة والحكم الحديث، فانتهى بلا رجعة مبدأ الحق الإلهي في تولّي شؤون الرعية. وقد ظهر هذا جليّاً في انجلترا عام (1688)، مع اندلاع الثورة المباركة The Glorious Revolution، وتقييد الملكية وسلطاتها، والاحتكام إلى البرلمان.






توافق هذا مع ترسخ الاستقرار السياسي، بعد قرن من القلاقل والثورات، التي أودت بحياة الملك الدكتاتور تشارلز الذي كان يرى في نفسه حاكماً بأمر الله، وفشل ثورة البيوريتان في القرن السابع عشر والتي امتدت من 1642 إلى 1666، والحروب الأهلية التي أودت بحياة الآلاف من الشعب الإنجليزي.

ولد الفن الروائي الإنجليزي، إذاً، على يد نخبة من الكتاب الذين تباينت أساليبهم الفنية السردية، لتلائم نوعية جديدة من جمهور القراء من الطبقة المتوسطة والنساء، وتميزت أعمالهم بالواقعية وتركيزهم على الصبغة الفردية التي اهتم بها قاطن المدينة العادي بالقرن الثامن عشر، وتأرجح حظوظه في عالم مادي، وقدراته الذاتية على البقاء، والازدهار أو الانكسار، كبطل أدبي يميز فن الرواية، فاستجاب هؤلاء الكتاب بحنكة أدبية وخيالية للتغيرات الجذرية التي طالت جميع أوجه الحضارة الإنجليزية، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً في إعادة صياغة العلاقة بين الكاتب والعالم الذي ينتمي إليه. وقد تكون رواية "أورونوكو" لأفرا بين، موضوع المقال القادم، من أولى الأعمال الأدبية للفن الروائي الإنجليزي.





       



Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

Poème ( Avril )

Poème ( Avril )

La Nouvelle القصة القصيرة ( Octobre )