La Nouvelle القصة القصيرة ( Octobre )

 



قصة قصيرة    




الشيخ مسكين





  بقلم : بيتر يوسف  




وضع فوق المنضدة لوحاً من الورق ثم وضع قلم عاج في  دواية  الحبر وكتب بخط كوفي جميل" وَكَم لِلّهِ مِن لُطفٍ خَفيٍّ "ثم وضع أمضته في أسفل على اليسار "مسكين", لفها بشكل أسطواني وأودعها في يد شاب كان قد طلبها منه. هكذا دعوه أهل منطقة الحسين _مسكين_، جاء هنا منذ سنوات، جاء شاباً يافعاً يلتمس مسكناً بجوار المسجد ، وما أن وجده مسكنا حتى صار كل يوم يخدم الزائرين في الطعام والاستراحة وتنظيف المسجد والمقام، لم يتوانى أبداً عن تقديم المساعدة، يوماً بعد يوم صار معروفاً لكل المترددين على المسجد والسكان باسم (المسكين)، لم يسأله أحداً عن ماضيه .هنا لا أحد يهتم بما كنت, الذي يهم هو كيف أصبحت شغوفاً متقداً بنار الحب الإلهي، فلا أحد يخدم دون حب وعظم العبادة حب.

 كان لديه قميص وبنطال من القماش يغسلهما كل يوم حين عودته من الأرشيف فهو رجل يعمل في التأمينات الاجتماعية يجلس وسط الورق ويحاول من الورق أن يقضي علي هموما ويفك عقداً، دائم الابتسام رغم ما يقابله من وجوم  السائلين والطالبين أوراقاً مرت عليها عقود وعقود، هنا في ذات المحلة كتب أولي الخطوط الكوفية على ورقة دشت ووضعها فوق مكتبه "فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً" فهو يعي أن كل من يأتي إلى الأرشيف هو يحمل هما وألما وربما أملا أخيرا لعله يجد النجاة والفرج، وعلي غير المعتاد أصبح الأرشيف هو مكان الفرج لمن يأتي وهنا أطلق عليه الاسم الثاني (فرج) داخل أروقة التأمينات والجميع يطلق صيحات الأمل هناك عند فرج.

عند عودته يأكل ما تبقى من عشاء ليلة أمس، يغسل سرواله مع قميصه ويعلقهما بجوار شباكه الأرضي ويلبس عباءته ويذهب سريعا للحسين. يقوم بخدمته المعتادة وفي أيام العطلات الرسمية والأسبوعية يهب موهبته للزائرين ويكتب لهم ما يشاؤون من آيات أو أحاديث بدون مقابل.

مرت الأيام والجميع يعرف الشيخ مسكين أو عم فرج لم يتغيرعن ممارسة طقوسه اليومية رغم كبر سنه ، في أوقات عديدة ينظره الجمع بقوة في عيناه بينما هو شارد في عالم آخر يسرح ويذوب ويبتسم ابتسامات رضا، وأوقات آخر بدون مقدمات يقبل كف يديه من الأمام  ومن الخلف ويشكر الله, سأله عابر في ذات يوم بعد أن هرم

:أما تشكو إلى الله شيئا ؟!

نظر إلي قلبه وعيناه تلائلأت كمن يتحدث عن حبيب يراه ويعشقه

: كيف أشكوه وأنا الشقي ، كيف أشكوه وبه أنا غني ؟

 تعجب السائل وظن أنه درويش من دراويش المسجد فهم سريعا من مجلسه ثم جاء صديقه الشيخ جميل كما لقبه لأنه كان جميل الملامح والسكينة ، ربت على كتفيه

 :لم يفهم بعد ؟!

 ضحك المسكين ونظر أرضاً وهو يتمتم

:حتما سيفهم فيما بعد .

 جلس على حجر بجوار المسكين وكانت عيناه تسأل بينما لاحظ المسكين تساؤلاته

 : حسناً ...تريد أن تعرف الآن ؟ 

ضحك الشيخ جميل ضحكة عذبه ثم أردف المسكين

: أبي عندما انتقل من هذا العالم الفاني كان يملك أرضاً وعقاراً وأخي، ومن ثم كان أخي الأصغر يشع طاقة وآمالاً جاء لي وقال إنه يريد أن يأخذ كل الميراث، صرخت في وجهه صرخة شديدة ...أيعقل أن تأخذ الميراث كله قال لي إنه يريد أن يبني مصنعا ويتاجر ويربح وحين تسير الأمور على ما يرام يعود بنصيبي من ميراث أبي وفوقه أرباح آخر.

 لم أتمالك نفسي وقتها وهممت بضربه ثم قلت له بصوت أعلى من صوت الأذان سيكون تقسيم الميراث بواسطة المحكمة.

 لكنني لم أكن أبدا ذلك الشخص الذي يهتم بالنقود والإرث عوضا عن أخيه، في يوم المحكمة تذكرت أبي الذي ذهب بدون أموال ولم تنفعه بشيء ....تذكرت أن المال طريقا يؤدي للهلاك بصاحبه إذ لم يحسن تصرفه ...وقفت أمام القاضي وشهدت شهادة أمام الله ونفسي إنني أتنازل عن ارثي ونصيبي من مراث أبي إلى أخي الأصغر.

 : تركت إرثك كله!.

: تركت كل شيء قد يربطني ويعوقني تجاه حبيبي .

 :تشتاق حبا له.

 :غمرني حبه من ذي قبل، حول قلبي الصدأ لين يسمع ويشعر ويذوب حباً وألما.

: لا تحتاج شيء.

: لم أعد احتاج شيئا معه.

 أحس المسكين بوخز في قلبه فامسكه وعليت فوق جبينه علامات الألم، حاول الشيخ جميل مساعدته أما هو فطلب منه أن يسنده إلى بيته صعد سويا درجات السلم القليلة وفتح الباب ووضعه على أريكة خشبية كانت القطعة الوحيدة التي يمكن الجلوس أو الاستلقاء عليها, كانت تلك الزيارة الأولى لأحد داخل مسكنه المتواضع.

 رفع عيناه الشيخ جميل ليجد حوله الكثير من الآيات المكتوبة بالخط الكوفي ولكنها لم تكن آيات قرآنية فحسب كانت خليط، كانت بجوار بعضهما البعض وأول ما رفعت عيناه على تلك الآيات كانت "الله محبة " ثم  بجوارها بسنتيمترات قليلة "لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الآخَرَ، أَوْ يُلَازِم الْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ الآخَرَ. لَا تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللهَ وَالْمَالَ" ثم عاد لينظر إلى المسكين ليجد آية أخرى"لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ" وبعدها بقليل "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان"  اندهش جميل ثم نظر إلي المسكين ليجد شفاه ضاحكة جدا وكأنه يلاقي أحباءه ، بصوت متهدج يحتضر

: لم تكتشف بعد أنني مسيحي، قد عقدت العزم أن أذهب إلى الدير لأترهب ، ولسبب ما حال ذلك بيني وبين الرهبنة، اكتشفت أنني يمكنني الرهبنة وسط العالم أيضا دون أن يعرف العالم من أنا.

امسك الشيخ جميل بيده فشدد عليها المسكين بقوة

 : هذه وصيتي يا شيخ جميل، اذهب بي إلى كنيسة تعرف راعيها وقص عليه ما قلته لك وهو سيتولون تكفيني وصلاة الجنازة علًى.

 الأنفاس صارت أبطأ ثم أبطأ إلى تركت الجسد ، بكى الشيخ جميل على رفيقه ثم دعا صديق آخر ووضعوه في عربة يد يستخدماها في المسجد، وذهبا للكنيسة المجاورة ومعها بطاقة إثبات الشخصية للمسكين وبعد أن قص على القسيس قصة الشيخ مسكين حضرا صلاة الجناز ودفناه وعادا إلى الجمع في الحسين ليذيع خبر موت الشيخ مسكين وحين سألوا الشيخ جميل عن الجثمان قال لهم أن أقرباءه أخذوه في بلدهم ثم اقترح الجميع أن يقيموا صلاة الغائب على الشيخ مسكين ليصلي عليه جمعاً غفيرا فالله إذا أحب عبدا أحبب الجميع فيه.

 

 

 

 

 

 


Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

Article المقال ( Septembre )

Article المقال ( Octobre )

Article المقال ( Septembre )