Article المقال ( Septembre )
d الملك هنري الثامن: ملك إنجلترا المزواج d
بقلم : أ.د. عصام الدين فتوح
لا يضاهي شعبٌ من شعوب العالم الشعب الإنجليزي في ولعه
بسير ملوكه وحكامه، من الملك ألفريد وحتى الملكة إليزابيث الثانية، ملكة إنجلترا
الحالية، واهتمامه بأدق تفاصيل حياتهم العائلية، لتصبح موضوعاً رئيسياً لمقالات
الصحفيين، وتحليل السياسيين، ودراسات المؤرخين، بل وقصص ومسرحيات الأدباء
والمؤلفين.
إلا أن ملكاً بعينه نال نصيب الأسد، فملأ الدنيا وشغل
الناس، منذ جلوسه على عرش إنجلترا وحتى يومنا هذا، وذلك لتفرده الشخصي، وما ترتب
من آثار سياسية واجتماعية ودينية على فترة حكمه (1509-1547)، والذي استمر 37 سنة.
كان هنري الثامن قد ورث عرش أخيه أرثر بعد وفاته عام
1502، وشاءت إرادة والده، الملك هنري السابع، أن يرث هنري الشاب، الذي لم يتجاوز
عمره الثامنة عشر، أرملة أخيه، حفاظاً على العلاقات الدبلوماسية المتينة بين
إنجلترا وأسبانيا، وقد احتاج الملك الشاب إلى إذن موثق من البابا في روما، منحه
الأخير دون تردد، لعلاقته القوية بالمملكتين.
وشهدت السنوات الأولى لحكم هنري تمتعه بشعبية كبيرة، إذ
كان شاباً مختالاً، ورياضياً مرموقاً، وحجة في الأمور الدينية، ومتعلماً يجيد
اللاتينية والفرنسية، بل وكان مولعاً بالموسيقى والشعر، فكان يؤلف القصائد، ويكتب
الألحان، بل وكانت له فرقة موسيقية تصاحبه في الغناء.
كان هنري شرهاً، مولعاً بالجميلات، وشتى أنواع الملذات
من مأكل ومشرب، وسرعان ما أحاط القصر الملكي ببلاط، أغدق عليه من مظاهر الثراء،
مستضيفاً أجمل بنات العائلات، فكان له ابن غير شرعي من عشيقة اتخذها في أوائل
سنوات زواجه.
كان للملك الجديد حلمان راوداه طوال فترة حكمه، بل وأملا
عليه أغلب القرارات التي اتخذها طوال عهده. فكان الشاب يحلم بالمجد العسكري، ورأى
في نفسه قائداً عظيماً يتغنى به التاريخ، مما أدخله في صراعات مستمرة، ضد أسبانيا
تارة، وفرنسا التي حلم بفتحها تارة أخرى. أما حلمه الثاني، والذي تحول مع الأيام
إلى هوس تملك منه، فكان بولي عهدٍ، يخلد اسمه في التاريخ، ويكون نواة لسلالة حاكمة
من ملوك إنجلترا في المستقبل.
ضاق هنري ذرعاً بزواجه الأول من كاثرين، وزاد من احباطه
احساسه بفشلها في أن تنجب ولي عهدٍ ذكراً، وقد تحول هذا الإحباط إلى رغبةٍ ملحة في
أن يطلقها، حيث إنه آمن بأن زواجهما ملعون، وما كان يجب أن يتم من أساسه. إلا أن
كاثرين لم توافق على مبدأ الطلاق، حيث إن وقوعه يؤدي إلى عدم شرعية ابنتها ماري،
ومن ثم عدم إمكان ماري اعتلاء عرش إنجلترا خلفاً لهنري. وفشلت كل جهود الكاردينال
وولسي، الذي أوكل إليه الملك بحل تلك المعضلة، في أن يحصل على إذن من بابا
الفاتيكان بشرعية طلاق ملك إنجلترا.
ومما زاد الأمور تعقيداً اعجاب الملك بآن بولين (1501 –
1536)، محظيته الجديدة، والأخت الصغرى لماري بولين، التي كان الملك قد نفض يده
منها. وكانت آن بولين قوية الشخصية، واسعة الحيلة، فأصرت على أن يتزوج الملك منها،
واعدةً إياه بولي العهد الذي طالما تمناه، بل ودفعته دفعاً إلى أن يعلن نفسه
الرئيس الأوحد للكنيسة الإنجليزية، وقطع العلاقات التي كانت تربطه بروما.
كانت غالبية الشعب الإنجليزي مؤيدة للملكة كاثرين، بل
ورافضة لأن تصبح آن بولين مليكة لوطنهم، فأقسم هنري على أن ينتقم من كل معارضيه،
من رجال سياسة ودين، فتوالت المحاكمات والإعدامات، كما تم تأميم جميع
الكاتدرائيات، والأراضي المملوكة للكنائس، مما أدى إلى تغييرات جذرية لتوزيع
الثروات في المملكة، واثراء الميزانية الملكية، وظهور طبقات جديدة من المستثمرين
من التجار والأثرياء، الذين سارعوا إلى وضع أيديهم على تلك الثروات.
وأنجبت آن بولين ابنتها إليزابيث – التي قدر لها أن تصبح
يوماً ملكة إنجلترا – إلا أنها فشلت في إمداد الملك بولي العهد المطلوب. فألصق
مساعدو الملك تهمة الخيانة الزوجية بالملكة آن بولين بعد أن رفضت هي الأخرى الطلاق
من الملك، الذي ما كان منه إلا أن تزوج من جين سيمور (1508 – 1537)، احدى وصيفات
الملكة آن، في أعقاب إعدام الأخيرة بأيام معدودات. ونجحت جين سيمور فيما قد فشلت
فيه الزوجتان الأولتان، إلا أنها قضت نحبها بعد ولادة طفلها إدوارد من جراء تلك
الولادة المتعثرة.
ما كان من توماس كرومويل (1485 – 1540)، وهو خليفة
الكاردينال وولسي ومهندس السياسة الخارجية لإنجلترا، إلا أن يقنع الملك المكلوم
بضرورة الزواج مجدداً، لتعميق تحالفاته الأوروبية، ووافق الملك بعد تردد على
الارتباط بآن أوف كليفز (1515 - 1557)، قبل أن يراها شخصياً، معتمداً فقط على لوحة
لها كان كرومويل قد أوصى الفنان الذي قام بها على ابراز كل مفاتنها، واخفاء
عيوبها. صعق الملك المحب للجمال بامرأة لها "قسمات الحصان"، ولم يمض على
أحداث زواجه إلا أيام، قبل أن يطلقها هي الأخرى، ويحاكم كرومويل بتهمة الخيانة،
ويأمر بقطع رقبته.
كانت آن بولين قد اتهمت في عفتها وشرفها ظلماً، أما كاثرين
هوارد (1523 - 1542)، الزوجة الخامسة، فقد كانت بالفعل فتاة لعوب، لم تتورع عن
خيانة الملك مع أحد أعضاء حاشيته، إذ كانت تعتقد أن سلطاتها كملكة وزوجة لرجل مريض
بدأ يعاني من الخرف، يمنحها حرية كاملة، غافلةً تماماً عن الأعين التي كانت تراقب
جميع أفعالها السرية والعلنية، على الرغم من أنها كان لها أعين عن طريق وصيفاتها
وخادماتها في مخدعها ذاته.
بعد إعدام كاثرين هوارد علناً، وغير مأسوف عليها، اجتذبت
كاثرين بار (1512 - 1548) أنظار الملك المريض في أيامه الأخيرة، فصالحت بينه وبين
ابنتيه ماري وإليزابيث، بل وأشرفت شخصياً على تربية وليّ العهد إدوارد، فكانت خير
عون للديكتاتور في أيامه الأخيرة.
لاشك، إذاً، أنه يمكننا اعتبار عهد هنري الثامن فترة
تحول كبرى من العصور الوسطى إلى العصر الحديث، فقد مثل عصره نقطة تحول حاسمة في
تغيير إنجلترا من دولة كاثوليكية محافظة، إلى دولة بروتستانتية، على الرغم من أن
الملك شخصياً قد مات كاثوليكياً، إلا أنه ضحى أثناء حكمه بالآلاف من الكاثوليك
والبروتستانت سواءً بسواء. أما على صعيد الحكم، فقد أعاد هنري نظرية الحق الإلهي
للملك، والتي تلقفها منه الملك جيمس الأول، وتشارلز الأول، ومن بعدهما تشارلز
الثاني، والتي أودت بإنجلترا إلى أتون الحرب الأهلية، وانتهت بثورة أوليفر كرومويل.
ولذا فمن الممكن القول إنه قد وضع البذرة الأولى لعهود من القلائل والثورات في
التاريخ الإنجليزي الحديث، إلا أن إعلان هنري رفضه الامتثال لرغبة بابا روما،
وتنصيبه على رأس الكنيسة في بلاده، كان أيضاً إيذاناً بميلاد الدولة-القومية nation-state.
وبينما أدى قرار الملك هنري الثامن في الاستئثار بالحكم،
تلبية لرغبته في أن يكون حاكماً مطلقاً، والاستغناء عن مشورة الطبقة الأرستقراطية،
التي طالما تولت المناصب الوزارية الهامة على مدى التاريخ، فاستبدلها بمن أُطلِقَ
عليهم الرجال الجدد، من طبقات أقل من المتوسطة، وإن امتازوا بالذكاء الحاد،
والولاء المطلق لمليكهم، من أمثال الكاردينال وولسي، وتابعه الذي حل محله، كرومويل،
إلا أن حركة الإصلاح الديني التي قادها، ومصادرة أملاك الكنائس الكاثوليكية
وأراضيها، وبيع الكثير منها إلى المستثمرين والتجار، قد أدت بدورها إلى تغييرات
جذرية اقتصادية واجتماعية، أعادت تشكيل وهيكلة المجتمع الإنجليزي، وإن أثقل الملك
المبذر، بالرغم من ثراءه الفاحش، وبولعه بالحروب، كاهل المواطن الإنجليزي، بالتضخم
والضرائب الباهظة.
لا شك أن مكانة هنري الثامن وأثره ستظل ماثلة في مخيلة
الشعب الإنجليزي، التي لم تعد ترى فيه إلا نموذجاً للحاكم المستبد وأهوائه الخاصة،
ورمزاً للآثار السلبية لحكم الفرد وما قد يحدثه من بلاء، تدفع ثمنه الشعوب
والأوطان.
بيروت، 30 يوليو 2020
Commentaires
Enregistrer un commentaire