Article المقال ( Septembre )
Ñ آخر كلمات سقراط Ò
بقلم : أ.د. عصام الدين فتوح
يخبرنا الفيلسوف
الكبير أفلاطون، في محاورةٍ من أعظم محاوراته الفلسفية، عن آخر ساعات أستاذه
ومعلمه سقراط (470 – 399 ق.م.) بعد أن أودع السجن في أعقاب محاكمة هزلية، حكم عليه
فيها بالإعدام.
جلس سقراط
القرفصاء في زنزانته الضيقة، ملتحفاً بأبنائه ومحاطاً أصدقائه ومريديه، مبتسماً
راضياً، لا يبدو على ملامحه أي علامات جزع أو استنكار لما هو مقدم عليه من تجرع
السم الزعاف Hemlock، تنفيذاً لحكم الإعدام الصادر
بحقه بتهمة ازدراء الأديان، والتشكيك بآلهة اليونان، فضلاً عن بلبلة أفكار الشباب،
وحثهم على الثورة، بإثارة الفتنة ومساءلة ذوي السلطة، من المتحكمين في مصائر
العباد من حكام وساسة.
لم يكن والد
الفلسفة الغربية وأحد مؤسسيها باحثاً اعتزل الناس في برج عاجي، مبتعداً بفكره
السامي عن مشاكل العامة من الدهماء والبسطاء وهمومهم، ولم يكتب سقراط دوائر
المعارف والمراجع لتعتمد عليها الأجيال لمئات السنين، بل قضى عمره متجولاً متسكعاً
في شوارع أثينا وأسواقها، مستعلماً ومستفسراً من كل من يدعي الحكمة والمعرفة، أن
يدله على مصادر حكمته، دون أن يعلن أنه حكيم، بل وبإعلان جهله وبأنه ما منح إلا
القدرة على تفنيد وضحد ما يراه من عوار بالمنطق أو تضارب فكري، وجب التنبيه إليه
بعرضه كاملاً على العقل، وفي ضوء معطياته، مؤسساً لما عرف بالأسلوب السقراطي، الذي
تعلم منه وعنه كبار فلاسفة اليونان من أمثال أفلاطون وأرسطو، بل ومن تبعهم من
فلاسفة العصر الحديث، بدءاً بديكارت مؤسس الفلسفة الحديثة.
رأت هيئة
المحلفين والقضاة في سقراط تهديداً مباشراً للسلطة، ورأت فيه مفكراً خطراً يرفض
بايباء وشمم أن يستعطف هيئة الحكم بالبكاء والتعبير عن الندم والقسم بألا يعود إلى
تلك الممارسات الرذيلة التي أودت به إلى المحكمة، وإلى حكمها الجائر بإعدامه،
فيصير مثلاً لكل من تروج له نفسه أن يحذو حذوه، أو يرى فيه بطلاً ثائراً.
راعى المفكر
الكبير ما اعترى الشباب من هم وحزن، وهم بين باكٍ وغاضب وثائر ومتآمر، يحرض
الفيلسوف على رشوة الحراس وتأمين هروبه من السجن. فقرر المعلم الفيلسوف، وقد عاش
حياته مؤمناً ومحباً للشباب من طلابه، أن يهدئ من روعهم، ويفصح لهم عن سر هدوئه،
بل ورضائه بتقبل قدره المحتوم. وأكد سقراط لسامعيه، بادئ ذي بدء، بأنه – وقد تجاوز
عمره السبعين عاماً – فقد قارب مغادرة الحياة، وأنه يدرك تماماً أن ما تبقى له
أيام معدودات على أحسن تقدير. وأكد سقراط لسامعيه على أنه قد أمضى سنوات عمره
مواطناً شريفاً، وأنه قد نال شرف الدفاع عن الوطن، بخدمته العسكرية، وطوال حرب
البيلوبونيز التي امتدت لسنوات عديدة، كما أكد أيضاً أنه قضى حياته مؤمناً
ومنادياً بسيادة القانون، وبأن إيمانه بالعقد الاجتماعي، الذي لا ينتوي اليوم
التنكر له، ناهيك عن تعريض الأصدقاء والمريدين للخطر ومخالفة القانون.
قال سقراط
كلمته الأخيرة، ثم قام طالباً بكأس السم، مبتسماً واثقاً وشهيداً للفكر الحر،
ومثلاً لأعلى قيم الإنسانية وأسماها.
بيروت، في 15/9/2020
Commentaires
Enregistrer un commentaire