La Nouvelle القصة القصيرة. ( Juin )





القصة القصيرة    


النظرات


بقلم :مينا وجدى 



هناك نظرات نتمناها، وهناك نظرات نخشاها كالنصال فنتمنى لو انمحونا للهروب منها.

لم تتسرب الخيوط الذهبية من بين طيات الستائر لتيقظه بل سبقها منبه رنان قتل الصمت الذي كان يغلف فضاء الغرفة والبيت، ومن سرير لا يشاطره إياه أحدهم قام أمين، أضاء أنوار الشقة كلها في طريقه للحمام كما هي عادته منذ الصغر خوفا من شخص سيأتيه بالتأكيد من الخلف ويبتلعه في الظلام، بالنسبة لشاب في طريقه للثلاثين فأمين قصير جدا لحد يجعله يقف على أطراف أصابعه أمام المرآة حتى يستطيع تبين وجهه بالكامل أثناء حلاقة ذقنه.

أول البارحة قد وصلته رسالة عن اجتماع لخريجي مدرسته احتفالا، فتأرجح قلبه فرحا ثم ارتج فزعا.

أما الآن فهو يجمع شجاعته كلها ليرتدي الملابس ويذهب لذلك الاجتماع، فليس كل رجوع للماضي به جمال خالص، احتار أمين فيما يلبس ويضع، وهكذا عادته كل يوم، فيقف وينظر ويفكر "إن لبست هذا سيُنظر لي، وذلك سيجعلهم بالتأكيد يضحكون.."، فارتدى قميصا –في النهاية- أبيض اللون وسروالا جينزا حتى لا يلفت انتباه أحدهم بريقا أو احتقارا، استمر في إعداد هيئته مرارا وتكرارا حتى تجاوز الأمر أكثر من ساعة ونصف الساعة.

أخيرا نزل أمين الشارع، وقد كان من المتفق فيما بين القائمين على الاجتماع أن يكون كنشاط دراسي فيبدأ صباحا في الثامنة تقريبا وينتهي مع انتصاف الشمس في السماء، وقد كان الشارع هادئا كعادة الصباح ولكنه لم يلبث أن مشي بضعة خطوات حتى توجس من وجود عيون تترقبه رغم عدم وجود أحدهم في الشارع.

ركب مشروعا بجانب الشباك الأيمن في الكنبة الخلفية تماما، وأخذ يضبط جلسته حتى لا يحتك به أحد لا طالعا ولا نازلا، ثم وضع سماعاته في أذنيه منصرفا عن الدنيا من حوله، وكانت الأغاني تتوالى على أذنية من جميع الأذواق.

اضطر للرجوع للواقع لما جائت شابة سمينة راكبة وفتحت الكرسي الذي أمامه تماما وارتمت بكل وزنها عليه فما أحس إلا ألم وضغط في نصفه السفلي حتى خشي من أن يصاب بالعقم منه، ثم اطمأن بعد ذلك قليلا لأن ليس لديه شريكة، فارتبكت أعماقه لذلك بعدها، وكان يخاف أن يحدثها فيتهم بمضايقتها، فصار يسب ويلعن اليوم الذي قرر فيه الذهاب للاجتماع وكل شيء يحيط به حتى نزل من المشروع.

اتخذ الشوارع التي يعتقد أنه لن يصادف أحدهم بها حتى وصل إلى السور الخارجي للمدرسة، وقد تقافزت إلى ذهنه كل المرات التي أهين فيها داخل تلك الأسوار بدافع السخرية واللهو والعبث، وحينما جاءته لحظة قرر فيها عدم الدخول حاصرته من الخلف سيارات زملائه من دفعته، ولكم غريب أنه كان معهم في نفس الفصول والأدراج وصاروا في شأن وهو في شأن آخر يختلف عنهم جدا، لعل الأمور لم تكن طيبة مع أمين، لا أحد يعرف، حينما أحس بذالك الحصار توجه فورا لداخل المبنى واتجه نحو غرفة الاجتماعات لعله يجد بها خلوة حلوة بعيدا عن أنظار الناس، لكنه وجدها شبه ممتلئة كراسيها، كان كلما سأل أحدهم إن كان بإمكانه الجلوس بجانبه تحججوا بأنه مقعد زميل ذهب للحمام، أي حمام ضخم هذا؟!

أيا يكن لم يجد مقعد سوى في الصف الأمامي، أول ما لمست مؤخرته قاعدة المقعد حتى حدث اتصال بين المكان وذاكرته، فمنذ خمسة عشر عاما كانت الأوراق تقذف عليه والأحبار تفرغ في قاعدة الدرج قبل جلوسه ولطالما ترامت لأذنيه عبارات تحمل اسمه أو هكذا كان يخيل إليه فكان يتمنى من أشد قلبه أن يختفي.

دخل مدير المدرسة وحياهم وجلسوا كلهم وبدأ اجتماع النوستالجيا الخاص بهم، وقد كان أمين يسمع كل همسة من الخلف والقلق يتلبسه، بعض الهمسات يظنها تحمل اسمه، ويظن بكل الضحكات سيرته وبكل النكات هيئته، حتى صار لا يقدر أن يسمع المدير والمدرسين الذين يتتالون في سرد قصصهم وذكرياتهم.

على أعلى الدرج كان قد وضع مفاتيحه منذ دخل الاجتماع، وفي لحظة هفوة منه سقطت أرضا أحدثت دويا لا بأس به ولسوء حظه تزامن ذلك مع برهة صمت جعلت من وقع الأمر عليه ضرب من القتل، تعرقت جبينه وخال الصمت اللحظي أبدي لا ينقطع، وفجأة أحس بضغط على رأسه كأن العيون كلها قد انقلعت من محاجرها وتركزت فوق رأسه، متيقنا بأن سالم وممدوح سيضحكان عليه و سيعلق كريم بأن يمسك أعصابه وههههه، انحنى في سرعة خاطفة والتقط المفاتيح من على الأرض، في حدث لم يدم لثوان عدت عليه سنين.

كلما مر به الوقت وتقدم كلما أحس بحجر أثقل من حجر سيزيف يربض على صدره ورغبة في الاستئذان لكنه خاف من رفع يديه طلبا فيسخر منه أحدهم، أحس بأن كلما قيلت ذكرى عن لهو الصبا كان هو المقصود بذلك، كل حدث وكل شغب يعتبره إسقاطا عليه، لذلك قام بالتضاؤل في جلسته وأخذ ينزلق حتى كاد يقع ولكن أحدا لم ينتبه،أما هو فأحس أن الكون والخالق وملائكته والشياطين في الأسفل قد انتبهت له مرة واحدة، شعر برغبة ملحة في البكاء، سب نفسه مرارا على اختيار ترك المنزل والنزول بل والبقاء، أليس الأكرم للمرء الرحيل واعتزال ما يؤذيه؟ هكذا فكر أمين.

أعلن عن الراحة، فخرج أمين مسرعا كسارق بين الناس محاذيا للحائط وينظر أمامه ولا ينظر وراءه أبدا، خرج من المدرسة والعرق على جبينه وبين قطرات العرق كانت دمعة فارة من عينه، وقلبه يضرب أغلاله يطالب بالخروج إلى النهار، وصار يمشي في الشوارع متنميا أن يغلق عينيه ويفتحهما فيجد نفسه في البيت وحده، وصار يمشي ويمشي بسرعة حد العدو حاسبا أن الأعين تلاحقه، لكن في الحقيقة لم يلفت وجوده بالاجتماع نظر أحدهم إلا حين تركه المقعد شاغرا، والحق أن أحدا لم ينظر إليه بل لاحظه من الأساس.



Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

Article المقال ( Septembre )

Article المقال ( Octobre )

Article المقال ( Septembre )