La Nouvelle القصة القصيرة. ( Mai )
قصة قصيرة
القاتل ما زال حيا
بقلم : مريم بولس
زهرة
يلهو جميع من كانوا بتلك الحفل الخريفي الذي يتسم بالصقيع الذي يداعب
الحيوات ، و بأوراق الشجر التي تتساقط لتغطي المحبين. حفلٌ مكتظٌ بالمدعوين
الراقيين ... حسناً معظمهم ... متنكرين في ملابس غالية يشترونها ليصنعوا كبرياؤهم
بها أثناء ليلة واحدة ...'حسناً كأنهم ليسوا دائماً متنكرين!' على أية حال ...
تُسمع موسيقى الچاز خارجة من ذلك القصر غالباً طوال النهار ، (لأن مُصدرها
لا يُفضل المنزل في الليل) ... و لكن اليوم كان الحفل الكبير ؛ فال'هالويين' كان
حجة مُقنعة جداً تأخذها صاحبة ذلك القصر لتحتفل بالعيد الحقيقي ، عيد الحب و
الحقيقة و الحياة ، إنه الخريف !
~"تبدأ الحياة الأن!"
قالها صارخاً و غطس في نوبة من نوبات العزف المجنون كعادته .
_"حسناً الا ننادي زهرة الآن ؟" ،
- "أين هي؟" ،
_ "ربما تتأمل السماء في غرفتها كعادتها" ،
-"بالطبع ، تترك ضيوفها لنا و
نحن لا نعرف معظمهم لتطلب من النجوم تحقيق أمانيها" !
صعدت صديقتيها فريدة و دجى إلى حيث كانت 'غرفة مراقبتها' كما تدعوها هي ، و
هي غرفة صغيرة على سطح القصر بسقفٍ شفاف و نوافذ بلورية ، و يغطي الحوائط شِعرها
على أوراقٍ مبعثرة ، و لكن تبدو كأن لها ترتيب منطقي في عقل زهرة فقط ! و تلك
الغرفة كانت أعز ما تملك زهرة في كل غناها ... تلجأ إليها في السراء و الضراء ؛ لا
يدخلها أو يعرف بوجودها إلا صديقتيها و خادمتها الأمينة فيروز ... نعم و زوجها
أيضاً و لكنه لم يدخلها أبداً ، ربما لعدم اكتراثه الكثير بالكلمات النابعة من قلب
زوجته، أو ربما لقلقه الشديد أن يُفسد خلوتها بالسماء و نبض القلب ... أيهم
تُفضلون أن تصدقوا .
قُرِع باب الغرفة - التي يخرج منها صوت موسيقى - مرة و إثنتين و لا من
مُجيب ... "ربما نامت ؟" ، "و ربما لا " ردت فريدة وهي تلفت
النظر لعلامة على الباب تشير أن المفتاح في حقيبة إحداهن ! تعجبن قليلاً و لكن
فعلاً كان المفتاح في حقيبة فريدة ، و حقاً هي لم تأخذه أبداً من زهرة !
... فتحن الباب ، و دخلن واحدة تلو الأخرى ، لتسمعن نغمات أغنية فيروز
'بكتب اسمك يا حبيبي' بأكثر وضوح الآن ... و إذ بجسد زهرة يتأرجح على ال'هاموك'
المُعلق بالغرفة بلا نبضٍ و لا حياة !
'...و هديتني وردة ، فرجيتا لصحابي ، خبيتا بكتابي ، زرعتا عالمخده ...
هديتك مزهرية كنت تداريها و لا تعتني فيها تا ضاعت الهديه '
قفص الإتهام
بدأت عينا دجى تصبح دامعتين و لوقتها دخلت الخادمة فيروز لتبدأ في بكاء و
عويل وعلى نفس الصرخة انتهرتها فريدة لتصمت
- "الا ترين السكين بجانب زهرة ! هناك جريمة قتل هنا و يجب ان نبحث عن
دليلٍ !" ،
_" نعم و لكن السكين ليس به دماء ... و زهرة ايضاً لم تكن تنزف دماً
!"
قالت دجى لتقاطعها فيروز :
• "أنقول عن السيدة زهرة 'تكن' الآن !!"
و انهمرت في بكائها الذي لم تنهيه ابداً .
مرَّ وقتٌ ليس بقليل وقد انطفأت مسامعهم عن الصخب القادم من الأسفل ، و
تسمرت أقدامهم أمام جثة صديقتهم الثالثة . فكم و كم صنعوا ذكريات و خاضوا التجارب
المتهورة و كانوا سنداً لبعضهم البعض في كل حزنٍ واجههم . و كانت زهرة دائماً
العنصر الدافئ في الفريق ... دائماً ما تسمع ، و تحمي ... و تقلق ؛ دائماً ما تضحي
و تحب ... ليس لصاحباتيها فقط ، بل حتى لمن يمكن يوماً أن يقتلها ! ربما كان خطأها
أنها أبداً لم تُظهر ذلك الحب لأحد ، بل كان على الجميع الغطس في روحها ليعلموا كم
أن قلبها صافٍ .
على أية حال قد ماتت الآن و حقاً لا يُفهم مَن يستطيع كره زهرة لتلك الدرجة
!
تسمرت أقدامهم . و كادت تنفجر أعينهم على ورقة صغيرة معلقة في القلادة
الذهبية التي لا تخلعها أبداً زهرة من رقبتها . كانت لتلك القلادة معزّة خاصة لدى
زهرة ، فقد كانت أول هدية أهداها لها زوجها ؛ و لكن ما لم تكن تعلمه هو أن
صديقتيها هن من كانوا قد إشتروا تلك القلادة و أعطوها له ليهديها شيئاً في عيد
ميلادها الذي - كعادته - كان قد نسيه تماماً . كانت بتلك القلادة التي تعتبرها 'ما
تحبه من زوجها تصحبه في كل مكان ' كما كانت توصفها هي ، ورقة رثة مقطوعة من دفتر
مستّر ... مكتوب عليها بخطٍ ثقيل 'القاتل مازال حياً !' .
...
-... "وجدتم أي شئ ؟!" ،
• "نعم يا آنسة فريدة ! وجدت تلك الساعة في الحمام الذي بغرفة السيدة
زهرة !"
قالت فيروز و هي تعطي الساعة الجوهرية لفريدة ،
_"ليست ساعة زهرة!" ..
-" أنا أعرف ساعة من تلك ! ..."
...جليلة ... بنتٌ من بنات أحد أغنى أغنياء المدينة ، و لكنها تعيش في
منزلٍ بسيط ولا يُعرف لماذا ! كانت تدور الشائعات حولها أنها كانت على علاقة بزوج
زهرة في الماضي ؛ علاقة ما إنتهت بسفرها للخارج ثم عودتها لتسكن بذلك البيت البسيط
في أطراف المدينة و عدم تعرضها الكثير للمجتمع لسبب أو لآخر . و لكن ما لم يكن
مفهوماً أكثر من كل شئ هو لماذا تدعو زهرة شخص مثل جليلة لتلك الحفل ... و في وجود
زوجها ... و لماذا تقطع جليلة خلوتها و تجنبها للمجتمعات خاصة الراقية منها لتلبي
دعوة زوجة حبيبها السابق ؟!
-"كانت ترتدي تلك الساعة و كأنها تتباهى بها و تحاول إظهارِها طوال
الحفل ... لم أكن أعرف من تلك السيدة في البداية إلى أن وجدتها تشد زوج زهرة من
يده إلى الشرفة الكبيرة ، فتبعتهما لأُرضي فضولي ، و كانت قد بدأت تحاول التكلم
معه بصوتٍ منخفض فإنتهرها بصوتٍ حاد قائلاً 'اتركيني و شأني يا جليلة ،كانت ساعة
حقيرة ليست خاتم زواج'"
_"ما قصة تلك الساعة !! و كيف تدعو زهرة سيدة قيل عنها مراراً إنها
كانت واقعة بحب زوجها !؟"
-"ربما جليلة هي من أرادت القدوم ..."
أثارت فريدة ،
"... ربما مثلاً ... لتنتقم !"
المتهم الأول : جليلة
'ليث ... آهٍ و آه من ليث !'
صعدت كلٌ من فريدة و دجى درج المبنى القديم حتى الدور الرابع و الآخير ؛ و نظروا للعنوان الذي قد أحضروه من دفتر
المدعوين الذي كانت قد حضرته زهرة . كان باب المنزل الغير مطلي لا يخبر إلا بأن
ذلك المنزل مهجور منذ أن تم بناء تلك البناية المريبة ، حتى عندما رنوا جرس الباب
لم يكن يعمل ...
_" ... حسناً جداً هو لا يعمل بالتأكيد لا يوجد أحد هنا ... و أنا أظن
أنّي أُريد الذهاب لأمي الآن .. ف..."
-"لا أحد سيذهب لأي مكان ، لن تتركيني وحدي..."
قاطعت فريدة و هي تدق الباب ،
"لم أقطع كل تلك المسافة إلا لأعرف قاتل زهرة !".
إنتظرن بضع دقائق و لم يكن هناك صوت أقدامٍ أو تلفاز مثلاً من الداخل ، ثم
فجأة سمعوا صوت شئ يقع كأنه قد يكسر الأرض،
_"أظن أنها حتى لو كانت حية بالداخل ستكون قد ماتت الآن ".
... و أخيراً صدر صوتٌ ضعيفٌ من الداخل قائلاً "من بالباب ؟".
-" نحن ... من طرف ليث ".
~"ليث!!"
جاء الصوت مرتعشاً و عالياً تلك المرة ، ثم فتحت الباب جليلة نفسها و لكنها
كانت ترتدي بنطالاً رثاً لبجامة قديمة ، و
قميص تحتاني يُظهر ما ترتديه تحته ، يبدو أنها إرتدته بسرعة ؛ لا تقارن تلك
أبداً بال جليلة الأُخرى التى كانت بالحفل ! 'يتزينون فلا يظهرون' .
~"ماذا حدث لليث !!؟؟"
صرخت فيهن جليلة فجأة فإنتبهت فريدة و بدأت تتكلم بصوتٍ واضح ،
-"لم يحدث شئ لليث ، نحن فقط صديقتيّ زهرة و .. جئنا لنسألك بعض
الأسئلة و نرحل ".
~"إذا جئتم ههنا لأجل الساعة فنعم ، أنا تركت تلك الساعة لزهرة
اللعينة ، أنا تركت أحلى لؤلؤة تركها أحلى بحارٍ في حياتى أمام عينيها ، فقط
لتعذبها ، أُريدها أن تتعذب كما عذبتني ، أُريدها أن تعرف أنه لم يحب أحداً منا
أكثر من الآخر ، و الجميع يعلم لماذا تزوج بها ... الجميع يعلم من هم ليث و جليلة
!..."
بدأت جليلة في السقوط أرضاً ، فإندفع الفتاتان نحوها و حملوها لأقرب كرسي ،
ثم جلسوا أمامها يحاولون إفاقتها .
_"إن لم تكن تلك من قتلت زهرة فأنا لستُ دجي "...
همست دجى في أُذن فريدة التي كانت مُشتتة كثيراً بمنظر البيت . كان بيت
جليلة أشبه ببدروم لمنزل أربعيناتي ، يغلب عليه اللون الرمادي و تملأه الخردة ، مع
قطعٍ مبعثرة هنا و هناك من ملابس تبدو غالية للغاية و قطع إكسسوار أرخص واحدة منها
ذهبية بالكامل ، كأنها نقاط من الماس في كهف بركانٍ ثائر . كما كانت رائحة المنزل
غريبة بعض الشئ ، فغير أنها كانت كرائحة منزلٍ لم يسكنه غير الفئران و البراغيث
لمدة ٢٠ عاماً - بمرور الوقت كان يشعر كل منهن بشئ من ... حسناً ... الدوار !
بعد برهة تيقظت جليلة و كأنها فوجئت بوجودهن ثم تجاهلتهن تماماً و دخلت الى
غرفة ما بالمنزل و كانت تنادي ليث بداخلها ،
~"ليث ... ليث .."
و بالطبع لم يكن من مجيب ، فأكملت كعادتها- على ما يبدو-
"بالتأكيد هو يُحضر لي ما اتفقنا عليه و سيأتي ..."
ثم جائت و جلست أمام الفتاتان متجاهلة وجودهن تماماً ، و في يدها ذلك الكيس
الصغير الذي يحمل بداخله بودرة ما ، حضرتها ببراعة و إستنشقتها كأنها تغسل وجهها
عند الإستيقاظ !
_"بدأتُ أخاف حقاً "،
همست دجى في أذن فريدة ، فقررت فريدة أن تحاول الكلام حتى لا تكون قد قطعت
المسافة بدون الحصول على أية معلومات .
-"جليلة ، زهرة حدث لها مكروه ما و .. كنا نفكر من يا ترى يمكن أن
يتمنى لها الشر ... ففكرنا أن نسألك عسى عندك إجابة..".
~"... و أنا أُكلم ليث أثناء الحفلة ، حدث ما أحزنني قليلاً فجلست
أبكي ؛ فوجدتني زهرة و جعلتنى أغسل وجهي في الحوض الذي يغسل فيه ليث وجهه كل صباح
. كان حينها عندما قررت أن أترك تلك الساعة لليث ، فهو حتماً سيخبيها عنده لأنها
تذكره بأجمل أيام حياته ! بعد ذلك عندما نزلت إلى الحفل مجدداً ، و كان ليث يعزف
أُغنيتنا المُفضلة حينذاك ، رأيت داليدا زوجة مراد تأخذ زهرة إلى الأعلى و كأنها
ستقول لها شيئاً ؛ و حينها بالطبع سنحت الفرصة لي و لليث أن نبقى سوياً لبعض الوقت
. أنا لا أُريد أن يُصيب تلك الزهرة مكروه و لكن بالتأكيد داليدا تريد . أنا و ليث
أبداً لم نحب تلك الداليدا ! ".
المتهم الثاني : داليدا
في أحد الأحياء الراقية في المدينة ، و في أحد المنازل المبنية على شكل
المنزل الإنجليزي المعتاد ، دخل كلٌ من فريدة و دجى من سور الحديقة العامرة
بالثمرات الشهية ، و لاسيّما اليقطين في ذلك الوقت من السنة . صعدوا الدرج الصغير
و دقوا قارع الباب الضخم كاتمون أنفاسهم لما سيقابلهم من حقائق بعد دقائق .
فتح الباب رجلٌ صغيرٌ في الحجم ، قصير القامة ، بشوش الوجه ، يرتدي قميص
فاتح مزرر حتى أعلى الرقبة و شعره مصفف بعناية على جانبٍ واحد .
>"مرحباً ! أي خدمة ؟"
-"منزل الأستاذ مراد ؟"
هنا جاء صوتٌ مُنتهرٍ من الداخل ،
~"من هناك ؟!"
>"لا أعرف يا حبيبتي !"
ثم إستطرد هامساً ،
"من أنتن يا فتيات بسرعة قبل أن تغضب عليّ مجدداً ".
_"نحن من طرف زهرة المعلول زوجة ليث المعلول .. كنا نريد السيدة
داليدا في كلمات بسيطة ".
>"آه بالطبع بالطبع ، و لكن سأستأذنها أولاً ؛ و خذوا حذركم فربما
تحزنونها و يفسد مِزاجها كالعاده ! ".
_"... آآه .. حسناً !.."
ظهرت أخيراً داليدا و هي بيدها قطعة كبيرة من الحلوى .. كأنها طفلة تأخذ
إفطارها .
~"آه صديقتيّ زهرة إذن ؟ تفضلوا ، تفضلوا ".
كانت داليدا إمرأة كبيرة الحجم ، طويلة القامة ؛ يظهر على وجهها حس
الكوميديا السوداء العالي الذي تخرجه دائماً في وقتٍ غير صحيح . كانت تبدو مستمتعة
كثيراً بأن هناك من أتى لزيارتها و كأن هناك كلام جاهز في عقلها لتقوله لهم ، أو
كأنها كانت تنتظر قدومهم لتُخرج ما عندها ...'ياللشك!'.
دفعت بزوجها قليلاً لتدخِلهم ، فتلعثم هو قائلاً :
>"حسناً سأذهب أنا إلى العمل الآن يا عزيزتي ، إن إحتجتي شيئاً
إتصلي بي ".
فتركته يذهب بدون رد ، و إلتفتت لفريدة قائلة :
~"حسناً لماذا شَرفتني الزيارة ؟"
-"أتعرفين أي أعداء لزهرة ، أي شخص يتمنى فعلاً آيذائها ، شخص لا يضمر
لها غير الكره ؟"
~"أووه أأصاب عزيزتي زهرة أي مكروه .."
قالتها و ملامح وجهها تسكب تماماً ما هو عكس ذلك ، و لم تنتظر إجابة قائلة
:
"و لكن بالطبع إن تكلمنا على الكره فهناك جليلة حبيبة ليث ، ألا
تعرفونها ؟ هي أول من يجب أن تأتي على رؤوسكم ، فالمدينة كلها تتكلم عن علاقة ليث
بجليلة قبل تعرفه على زهرة ... "
-"نعم نحن تكلمنا مع جليلة و ..."
~"إن تكلمتم مع جليلة فلابد أنكم عرفتم سرها الصغير المتعلق بليث
".
_"أهو شيئاً يساعدنا في مشكلة زهرة ؟!"
قاطعتها دجى .
~"... حسناً لا أعرف و لكن دائماً هناك فائدة من معرفة أسرار الناس ؛
فجليلة دائماً ما تُخفي أشياء لها علاقة بليث ، و دائماً ما تبدو كأنها تبقي
أسراراً كثيرة حول الموضوع ، حتى أنهم يقولون أنا تقضي لياليها في الشوارع
المُحيطة بمنزله ... "
-"إن كنتِ لا تمانعين حتى لا نأخذ من وقتك أكثر ، نوّد سؤالك لماذا
صعدتِ إلى غرفة زهرة أثناء حفلة الهالويين ..."
~"أتتهمونني الآن بما أصاب زهرة ؟ على ذكر هذا ... ماذا أصابها
بالتفصيل الممل ؟ "
قالت هذا و لمعت عيناها كطفلٍ رأى قطعة حلوى ، و لما لم تجد رداً غير نظرات
'لن نقول لك حتى إن أُغشي عليكِ و تمرغتِ في الأرض الآن' ، إبتلعت ريقها و استطردت
قائلة :
"آه نعم ، لقد كانت حفلة رائعة في منزل المعلول ... و في ذلك الوقت
تماماً كنت أتكلم مع تامر و جميلة عن كيف يحافظوا على علاقتهم التي تُكره الجميع
في العزوبية ، فحقيقةً أنا من رأيي أنهما كانا أجمل ثنائي في الحفل ... بإستثناء
زهرة و ليث طبعاً فقد كانا خلابان ... بعيداً عن أنهما لم يرى بعضهما البعض من أول
الحفل إلى آخرها فقط ... على أية حال أتطلع كثيراً لرؤية كل واحدة منكن مع حبيبها
عما قريب يا فتيات.."
_"ذكريني ماذا وجه الحديث من زهرة إلى 'أشوفك في بيت العدل ؟'"
همست دجى في أذن فريدة، فقاطعتها فريدة بحزمٍ قليلاً موجهة كلامها لداليدا
:
-"سيدة داليدة ... الغرفة ؟"
~"نعم كنت سأتطرأ لذلك الآن ، قطعتن حبل تفكيري يا فتيات ، أين كنت ؟
... حسناً بعد ذلك رأيت تلك المرأة إيزابل .. ليبعدكم الله عنها فهي إمرأة سيئة
للغاية معروفٌ عنها كم أن ماضيها لا يحمل ما يُشرف أبداً ؛ أنا فعلاً لا أعرف
لماذا دعت زهرة مثل تلك المرأة في حفلها ... و أمام ليث ! أي نعرف جميعاً كم أن
ليث لا يهمه من معه و سينجذب لما تراه عينيه من جمال ، خاصاً لتلك الإيزابل
الشريرة .."
_"سيدة داليدا من فضلك .."
قاطعتها دجى ،
"ألديكِ ما تقولين بخصوص صعودك لغرفة زهرة ؟"
~"وددت أن أحكي الحكاية كاملة فقط ..على أية حال فقد فعلت ايزابل إحدى
حركاتها الدنيئة و أوقعت مشروبها 'من دون قصد' على فستان زهرة الذهبي ... بالطبع و
لأنني أعرف تماماً أنها فقط أرادت إحزان زهرة في حفلتها ، تدخلت في الحال لأحل
المشكلة و أخذت ليلى إلى غرفتها لأختار لها فستان جديد من ذلك الدولاب الملئ
بالفساتين الغالية ... بالطبع الم تتزوج هي بليث الغنيّ في النهاية... على أي حال
أخبرتها بكل النمائم التي قد تحتاجها ضد تلك الأفعى و لكنها أشعرتني بعدم الإهتمام
؛ و لكني أكاد أجزم أنها حضرت لها مكيدة ما في ذلك اليوم بسبب أفكاري الذكية ...
على أية حال أتردن أن تعرفوا تلك النمائم و أكثر منها عن إيزابل ؟".
-"أظن أن عنوانها سيكون أكثر من كافٍ لليوم !".
المتهم الثالث : إيزابل
متبعتان العنوان الذي أخذتاه من داليدا ، انطلقت الصديقتان إلى إحدى
الحواري التي لم يرونها قبلاً . كان مكان لا ينادي بالغنى ، و لكنه في نفس الوقت
به شيٌ مميز ، شيٌ لا يليق الا بفنان مغرم بالتفاصيل ..
_"لماذا جائت زهرة على بالي الآن "، همست دجى .
كان ذلك المكان أشبه ببقايا حرب في الأربعينات ، بنفس العظمة و الفخامة ، و
بنفس القدم ؛ من أبواب ضخمة ، و شبابيك طويلة مرصعة بزخرفاتٍ قديمة ، و لون عبق
التاريخ على كل بناء كأن سيارتهم قد عبرت بهم من خلال الزمن . مكان لا تكف العينان
من الإلتفات يميناً و يساراً فيه و في نفس الوقت تشعر ببعض ... الخوف !
هناك في إحدى الشوارع الضيقة في ذلك المكان ، مروا من خلال فتحة باب صغيرة
التي هي من المفترض أن تكون العنوان المراد . صعدن بحرص السلالم الضيقة الحلزونية
، التي ماثلت سلالم رأتها دجى في فيلم رعب اليوم الماضي ، حتى وصلن إلى نهايتها
بباب عملاق تملأه الألوان الغير متناصقة و الملفتة للغاية في نفس ذات الوقت . و
رغم رعبهن من كل تلك التفاصيل المريبة ، قرعن الباب الذي كان يُسمع من خلاله صوت
موسيقى چاز منخفض .
فتحت لهن سيدة شقراء ، تلبس قميص شفاف مفتوح حتى أسفل الصدر ، و بنطال ضيق
للغاية و لكنها بدت مرتاحة تماماً فيه ، و كان بيدها سيجارة مشتعلة رائحتها غريبة
بعض الشيء . نظرت السيدة إلى الصديقتين نظرة ذكية بعينيها الزقاوتين ، و تركت
الباب مفتوحاً لهن و اتجهت إلى داخل المنزل قائلة بصوت جهوري ،"تفضلي يا
فريدة ..".
-"أنا حقاً لا أعلم من تلك .."،
همست فريدة في أذن دجى و هما يدخلان إلى المنزل الغريب . كان كل حائط في
ذلك المنزل له لون و عليه رسومات لا تُفهم من أول وهلة ... حسناً ولا من ثاني وهلة
، فقد بان أنه لا يفهم تلك الرسومات إلا تلك السيدة نفسها ...
~"نعم يا فتيات أنا إيزابل ، ماذا تظنون أنكم تجدون عندي ؟ ".
-"حسناً نحن لا نريد أن نأخذ الكثير من وقتك ، كل ما في الأمر أن زهرة
قد لحقها ضرر ما و فقط أردنا إتباع إثر أياً كان يضمر لها شراً ، و فكرنا أنه ربما
عندك معلومات .."
قالت فريدة لتقاطعها إيزابل في راحة ،
~"نعم هي ليست صديقتي بالطبع و لكني لم أكن لأقتلها على أية حال ...
لا أظن أن عندي ما يفيدكن يا فتيات ..".
قالتها وهي تصعد على كرسي الرسم العالي أمام لوحة غير مكتملة لألوانٍ
متداخلة ليس لها نظام مفهوم ، مُشعلة سيجارة أخرى بولاعة ملونة و مُلفتة .
_"... و ماذا عن سكبك مشروباً على فستانها الغالي ؟ أهذا ضمن حبك لها
؟"
قالت دجى فضحكت إيزابل ضحكة ساخرة قصيرة قائلة ،
~"..آآه .. كنتن عند داليدا إذن ..."
ثم أمسكت بفرشة الرسم و غمزتها في الأسود ثم إستطردت قائلة ،
"ثم أنا لم أقل أبداً أني أحب صديقتكم تلك ...و على أية حال إن كنتن
تبحثن عن كاره لها فعلاً فأنتن في المكان الخاطيء ..."
و بدأت في إحاطة الألوان بالأسود من كل إتجاه . نظرن الفتيات لبعضهن في
تعجب و حيرة شديدين ، ثم قطعت فريدة الصمت قائلة ،
-"إذن فأنت تعرفين المكان الصحيح ؟"
~"ألا تعرفنه ؟! ... من المفترض أنكن صديقتا زهرة المقربتان ، كيف لا
تعرفا من أذاها ؟! ... على أية حال إن لم تُرد هي إخباركن فلا تبدوان لي أهل ثقة
لأخبركن ..."
ثم أخذت من اللون الأحمر القرمزي و رسمت بقسوة مُفسدة بعض تفاصيل اللوحة
التي بدأت تظهر ...
"اللون الأحمر لون مميز للغاية ، يشير للحب و العشق و القلوب النابضة
بقوة ، كما يشير إلى نتيجة ذلك الحب في آن واحد : القتل ، الدم ، الموت ...
".
نظرت الفتاتان ثانية لبعضهن البعض في حيرة ما بعدها حيرة ، و فجأة تركت
الألوان من يدها و نزلت من على الكرسي و إتجهت لداخل المنزل قائلة :
~" ... تعرفن طريق الباب يا فتيات ..."
و راحت تدندن بصوت مسموع قائلة :
"شذي قلبه المأمون ... شذيً يدخل في العيون .. قتلها و قتلها ... يرون
الشذى و يجهلون ...".
المتهم الرابع : شذى
رجعت الشابتان في حيرة إلى منزل فريدة ، حيث جلسا بجانب قائمة المدعويين
يفروها ربما يجدون ما كانت تلمح له تلك المرأة الغامضة .
_"... تلك المرأة فعلاً قالت 'قتلها' ! كيف عرفت أنها جريمة قتل ؟؟!
.."
صمتت فريدة و هي تقلب في قوائم الأسماء المدعوة ، فأكملت دجى فجأة كأنها
وجدت طرف خيط :
".. لقد قالت 'قتلها' ... أظن أنها كانت تتحدث عن ليث نفسه !".
فقاطعتها فريدة في دهشة :
-"شذى .. نعم شذى !! أظن أن هذا أكثر منطقية !!"
_"م..م..ماذا ؟"
-"شذي قلبه المأمون ... شذيً يدخل في العيون .. قتلها و قتلها ...
يرون الشذى و يجهلون.. هذا ما تعنيه تماماً ! هناك مدعوة هنا : شذى مأمون !".
بعد خمس دقائق من السير على الأقدام ، وصلن إلى منزل الآنسة شذى المأمون في
الدور الثاني عشر من أحد العمائر الجديدة .
_"مازلت لا أفهم من تلك السيدة حتى تحذرنا منها إيزابل هكذا ؟ البيت
يبدو عادياً للغاية !"
رنت فريدة جرس الباب و هي تقول :
-"السر وراء هذا الباب ، كل السر ..".
بعد ثوانٍ معدودة ، فتحت شابة صغيرة الحجم الباب . كانت الفتاة أبعد ما
تكون عن 'شذى قلبه المأمون' ، فقد كانت قصيرة القامة بشعرٍ مجعد قصير يميل لونه
لصفار البيض ، و عينان لا لون لهما مختبئتان وراء نظاراتٍ كبيرة سميكة ، و فمٍ
كبير مفتوح من الأذن للأخرى ، حتى أكبر من أنفها الذي لا يمت للأنوثة بصلة . و لكن
و برغم كل شيء ، كان بها شيء جذاب ! شيء مختلف لا يُعرف ما هو .
-"مرحباً .. آآه .. آنسة شذى ؟"
قالتها فريدة فردت بإبتسامة عريضة :
~"نعم أي خدمة ؟ "
_"نحن صديقتا زهرة المعلول و كان هناك ما ... نود التكلم فيه مع حضرتك
إن كان لديك بعض الوقت ..".
إستجابت شذى لقولهما 'زهرة' بإبتسامة ماكرة منتصرة على جانب فمها ، ثم قالت
في ترحابٍ مُبالغ فيه :
~"تفضلا بالطبع .. أهلاً و سهلاً .."
دخلت كل من الصديقتين إلى المنزل العادي للغاية ، و جلسا على الأريكة حتى
أحضرت لهما شذى مشروب من المطبخ ، قدمته لهم و جلست براحة و الإبتسامة لا تُفارق
وجهها .
-" لا نريد إتعبك يا آنسة شذى ، و لكن الموضوع بإختصار هو أذىً ما
لزهرة صديقتنا في يوم حفل الهالويين ، و كنا نسأل المدعوين إن كان عندهم علمٍ بشخص
ربما يسعد لأذاها ، فأحضرنا عنوان حضرتك من قائمة المدعوين خاصتها و جئنا ربما
عندك أي معلومات .."
لمعت عينا شذى من وراء عدسات نظاراتها الكبار ، حتى أنها لم تحاول إظهار أي
شفقة على زهرة التي أصابها مكروه ما ..
~" أنظرن يا فتيات ، أنا أحيا وحدي في منزل إشتريته لنفسي و أعيش
بمالي الخاص و أفعل ما يحلو في عينيّ منذ أن تخرجت من الجامعة ، و حتى الآن لم
أعتد على الحياة مع شخص أو الإعتماد على إنسان ؛ فحتى كما ترون أنا لست متزوجة ! و
هذا ليس بسبب مشكلة ما غير إنني فعلاً لا أريد الزواج ، لا أريد ربط حياتي بآخر
.."
-"و ماذا إن وقعتِ في الحب..."،
قاطعتها فريدة .
~"حسناً تلك مسألة أخرى . فهذا متوقف تماماً على مفهوم الحب عندك !
فأنا مثلاً أعرف أن الحب هو أن أحب نفسي ، أن أعرف قيمتها ، و ألا أدع مخلوق
يدمرها ، فكم أكره تلك الفتيات اللواتي يجعلن ذكر ما يقلب حياتهن رأساً على عقب ،
يسمحن له بتدمير حياتهن الخاصة ، و الإستيلاء على واجبها نحو نفسها بدواعي
'الإهتمام' أو 'صرتِ لي يا عزيزتي' فتتطور إلى 'مش كفاية بأكلك؟'... أن أقع في حب شخصٍ
تلك مسألة عادية لا أرفضها بتاتاً ، و لكن ذلك لا يعني زواجاً بالنسبة لي . فمهما
كانت الدواعي لا أترك حياتي في يد أياً كان كلياً . و لذلك ، فأنا لا أحب كثيراً
التداخل مع الناس و معرفة أسرارهم و التنبؤ بدواخلهم .. فعندما تسألونني عن من
يمكن أن يكون كارهاً لزهرة ، فأنتم كمن يسأل دبٌ في بياته الشتوي عن الطريق
."
و صمتت قليلاً في ترقب ثم إستطردت ،
"إلا إذا لم تكن تسألنني عن شخصٍ آخر ..."
المتهم الخامس : ليث
جلست الصديقتان في غرفة زهرة للمراقبة يحاولون البحث عن منطق ما ... من قتل
زهرة ؟! من قطفها من وسط أشعارها ؟! من إستفاد بقتل طبيبة نفسية لم تفعل يوماً غير
الإراحة و الإشفاق ؟!
-"أظن أني أشك كثيراً بجليلة ... تظهر كثيراً أنها كانت تعشق ليث
المعلول ، كما أني لم أشعر أن عقلها مازال يعمل بطريقة صحيحة ... ألم تري كمية
المخدر التي إستنشقتها ؟ و رائحة منزلها المعبئة بالدخان السام ... منطقي جداً أن
تكون قررت تعاطي شيء ما على السطح بعد أن رفضها ليث و وجدت مدخل غرفة زهرة فقررت
الإنتقام .. أنا أتهمها !"
_"ماذا عن داليدا ؟ فهي قريبة ليث و زوجة أقرب أصدقائه .. ربما كان
هناك خلاف ما بينها و بين زهرة .. لا أعرف أي خلاف بالظبط الذي قد يجعلها تقتل ،
ولكنها بدت لي مجنونة قليلاً ... "
-"و ماذا عن ايزابل ؟ لا أعرف لماذا بدت لي تعرف تشريح جثة زهرة و ليس
أنها قُتلت فقط ... و أظن أن لديها أسباباً ، فحسب كلام داليدا لدى ايزابل عين من
ليث ، كذلك فهي تبدو لي شخصاً مناسباً ليكتب مذكرة تقول 'القاتل مازال حياً' و
تشرب الخمر بعد ذلك ؛ تلك الغامضة العارفة كل شيء .."
_"أجل عارفة كل شيء ... فلماذا دلتنا بوضوح على تلك الشذى ؟ لم أشعر
بشيء مميز في تلك البنت ..."
-"نحن لا نصل إلى أي شيء هكذا ... لقد إتهمنا معظمهم الآن و لكن
القاتل واحد !"
_"لحظة واحدة ... نحن لم نسأل أهم شخص يُمكن إما أن نتهمه أو أن يدلنا
للقاتل الصحيح ! ...حتى نحن لم نعرف ردة فعله على الحادث ..."
قاطع دجى صوت 'ساكسوفون' ليث و قد بدأ في العويل الذي يُرعش شرايين القلوب
. نهضت فريدة في ترقب ، و راحت نغماته الكئيبة الواقعية تحرك روحهما بشكل غريب ،
حتى أنهما نسيا ما كانا يتكلمان فيه ..'تلك هي موسيقى الچاز ... تجمد المشاعر ،
تُظهر الواقع ، تجعلك تشعر بالسيطرة على كل شيء' ...
جرت الصديقتان لتمسكا بليث قبل أن يختفي كعادته ، و هو في غرفته للموسيقى .
كان يعزف ، ذلك فقط ... هو يعزف الآن و لن يسمح لأياً كان مقاطعته ! دخلت
الصديقتان و لم يلتفت لهما حتى . أخذ يرفع و يُهبط كَتِفيه العراض و هو يخرج نغمات
حزينة ، جريئة ، خشنة من تلك الآلة التي يعلقها برقبته و كأنها جزء من جسده . بدأ
ليث في الإنتهاء من معزوفته و ظهرت دمعة على وجنتيه لا تليق بمنظره الرجولي و ذقنه
المُشعر .
و أخيراً ، نظر إلى فريدة و قال :
~"هل عرفتم من قتلها ؟"
-"هل عرفت !؟"
~"... أنا من قتلها !"
قالها و كأنه فجر قنبلة وسط الغرفة منعتهم من الكلام ..
"... حسناً لست وحدي و لكن ... أنا السبب ! و لكني أريد معرفة
المعلومات التي جمعتنها بأدق تفاصيلها "
نظرت الفتاتان لبعضهما في إستغراب . فماذا يريد معرفة من معلومات غير أنه
قتل زوجته !... 'لماذا لم توبخيه يا فريدة ؟'... على أية حال أصر ليث أن يحكوا له
فقصوا عليه سلسلة الأحداث التافهة النسائية للغاية التي جمعنها من السيدات اللواتي
قابلنهن .عندما إنتهت الفتاتان من القصص الغير مترابطة ، صمت ليث قليلاً ثم أخذ
الساكسوفون و بدأ يعوي به و كأنه يصرخ لا يعزف ؛ بنغماتٍ قوية مظبوطة عالية مرهبة
مرعبة محبة خائفة و كثيرة المعاني . ثم إلتفت للصديقتان كأنه لم يكن يدرك وجودهما
و أدركه الآن ، ثم قال :
"كنت أرقص مع شذى ، و حين فرغت من الرقص معها وجدت في جيبي ورقة تقول
'إحمل زهرتك الذابلة من هنا ... ضعها حيث لا يجدها أحد حتى لا يقولون أنت من
قتلتها' ؛ فجريت إلى غرفة نومها ، و فتحت الباب ببطئ لأجد الغرفة مظلمة و حذائها
العالي يرتفع عن الأرض و رقبتها معلقة بشريطٍ قويٍ قرمزيٍ لامع ، و من نفس الشريط
رُبِطَ الكرسي القطيفة الأحمر ، الذي كان تحتها بالباب الذي فتحته أنا ..."
صمت قليلاً ، ثم صرخ بصوتٍ عالٍ غير ممهد :
"..ماتت زوجتي !!! ذبلت زهرة !!!.."
و ظهرت دمعة صغيرة تحت عينه و راح يعزف من جديد . قررت الفتاتان عدم قطعه
ليس فقط لخوفهما منه و لكن كذلك لأنهما شعرا أنه يعرف بعض المعلومات . فجأة توقف
عن العزف و فتح النافذة المطلة على الحديقة المظلمة و تكلم في الهواء :
~"قبل خمسة عشر سنة ، عندما كنت أعيش مع أبي رجل الأعمال المشهور الذي
كان يملك من المال ما لا يحلم به إنسان و كنتُ ناجح كثيراً في إدارة أعماله ، حقاً
كنت شاباً مثل الوردة المتفتحة .... و لكني مللت ! و في يومٍ قررت أن أترك كل شيء
من أجل حبي ... الساكسوفون ! فتركت أبي و جئت إلى هذه المدينة لا أعرف بها أي شيء
غير موسيقاي ... كنت أتردد على ملهى ليلي أعزف أحياناً و أمرح أحياناً و أسكر
أحياناً ؛ حسناً و تعرفت على جليلة ، أو بالأصح تعرفت جليلة عليّ ... قليلاً من
جليلة و قليلاً من داليدا و قليلاً من إيزابل ... مللت مللت مللت !! حتى قررت
الخضوع للعلاج النفسي حيث عولج قلبي ..."
ثم قطع كلامه كأنه أدرك أنه ليس وحده بالغرفة ، و سكت لدقائق و الصديقتان
واقفتان تنتظران كلاماً عن شذى ، و لكنه قطع الصمت قائلاً بصوت باكي :
~"منطقي جداً ... صعدت جليلة إلى غرفة زهرة لتجهز للعملية، ثم سكبت
إيزابل عمداً خمراً على زهرة لتأخذها داليدا إلى فوق ، فتمسك بها مع جليلة . و لدى
جليلة وصفة مخدرة من والدها مفعولها سريع جداً ، فخدراها و أمسكا بها في المشنقة و
ربطاها حيث يقتلها أول من يدخل الغرفة ، ثم نزلا من السلم السري في حمام غرفة
نومنا التي تعرف مكانه إيزابل ؛ ثم وضعت شذى الورقة في جيبي أثناء الرقصة لأكون
أنا ليث المعلول قاتل زوجتي زهرة المعلول ..."
'إنتهت القصة ... أكُشِف السِر ؟'
حفل الشتاء
حل الشتاء بسقيعه ، حل الشتاء بثلوجه ، حل الشتاء بجماله و ما يُضفيه على
القلوب من عشق . حل بمطره الذي يتغلغل للأعماق ليونس قلباً وحيداً . حل ببرده الذي
يُذكرك بحبيبك و يجعل البقاء بدونه مستحيلاً .
تلك أيضاً لم تكن مناسبة قد تفوتها زهرة للإحتفال و جمع جميع معارفها تحت
سقفٍ واحد ، حسناً ، نعم حتى و هي ميتة . فقد أعدت كل شيء ، كما قالت فيروز ،
ليكون كل شيء كما لو كانت حية في المناسبة التي تلي موتها . ربما لتجمع 'أحبابها'
بعد موتها لتذكرها ، أو ربما لتحمي ليث من الشعور بالوحدة ، أو لسبب آخر لا نعلمه
. و كأوامر زهرة أعدت فيروز عشاء حفل الشتاء و زينة الكريسماس و دعت نفس قائمة
مدعويين حفل الهالويين المأسوي . و ككل حفلٍ لزهرة ، كان هناك زجاجة نبيذ غالية
كثيراً يشرب منها جميع المدعويين ... و حتى تلك كانت تحضرها للحفل المقبل إن ماتت
. 'غريبة الأطوار ... أعلم !'.
و في ليلة الحفل ، إكتظ المنزل ثانياً ... و امتلأ بالمُحبين و الكارهين و
جميعهم عليهم قناع الألم لفقدان زهرة حياتهم 'كأنهم يتذكرون'. و كالعادة أخذ ليث
جانباً يعزف موسيقاه المؤلمة . يشرب البعض ، يرقص البعض .. يتضاحكون و قليلاً منهم
يُظهرون كأنهم يحزنون لموتها .. على أية حال فقد ماتت ، لن يفرق الآن إذا إهتم
أحدهم !
كان ليث يعزف ؛ يعزف و بكل قواه و عضلاته ، كان يتعرق ، كان يبكي ! جائت
إيزابل الواثقة ، لمست ذقنه بيدها الناعمة ، فقام معها لساحة الرقص ، رقصت ، و رقص
معها ، رقص و بكل قواه و عضلاته ، كان يتعرق ، كان يبكي ! جرته شذي ناحيتها و
تراقص جسدها في حضنه ، فرقص بقوة ، بكل قواه و عضلاته ، كان يتعرق ، كان يبكي ! و
مال بسكره من فاتنة إلى الأخرى و رقص بدون اكتراث ، رقص و بكل قواه و عضلاته ، كان
يتعرق ، كان يبكي !
و يستمر الحفل الفاتر كأنه فطيرة كثيرة السكر بداخلها عود فلفل حار صغير ؛
حتى تقطع أخيراً فيروز كل إعتياد ...
~"بعد إذنكم جميعاً ... أوصت السيدة زهرة قبل أن ترحل أن تُشَغَل هذه
الإسطوانة على الجراموفون ليسمعه كل المدعوين و هم يشربون زجاجة النبيذ الرئيسية
للحفل ..."
و قبل أن يرد أحدهم شغلت فيروز الإسطوانة ، فبدأ الجميع في الجلوس أماكنهم
بترقب ملحوظ ...
التسجيل :
' مرحباً أحبائي ، يا من يُنيرون بيتي كلما يُشَرِّفوه بمجيئهم البهي !
سأقطعكم عن عزف زوجي و الرقصات الصاخبة لبضع دقائق فقط ... فمعنى أنكم تسمعون لهذا
أنني جثة الآن و ليس لديكم فرصة للإنتقام مني . أنا زهرة المعلول زوجة ليث المعلول
أعمل طبيبة نفسية ، أعالج أوجاعاً دفينةً لا ترونها أنتم السطحيون . هكذا تعرفت
على زوجي ، و هكذا أُدير حياته ، و هكذا أشتري طعاماً كل مناسبة لأطعم كارهيَّ ،
من يريدون زوجي ، من يريدون مالي ، من لا يُضمرون لي إلا الشر ، أنتم .
بعض العناصر منكم أيها السادة الحضور استقبلوا ضيوفاً غير مُنتظرين منذ
بضعة أسابيع ، فريدة و دجى "صديقتا عمري" . و لأن ربما لا يعرف الجميع
كل شيء ، سيكون الكل على المكشوف الآن . أين ساعتك يا جليلة أتركتها في غرفتي ؟ حسناً
أنا قد ناديتها بسرعة لتنساها هناك و تكون أول متهم . أُعرفكم : جليلة ، من أحبت
زوجي حتى الهَوَس . كان يعرفها منذ شبابه ، حسناً أحبها قليلاً ، و أعطاها بعض ...
بل الكثير من الأمل . أعطاها كما يُعطي لأي واحدة معه : الثقة بالنفس ! و لكنه ملل
، طبيعي! فجاء في يومٍ و أخبرها أنه سيذهب لشراء ورود لها و لم يعد لمنزلها مجدداً
منذ ذلك اليوم ! و لكنها لم تمل ، و تحولت تلك الفتاة فاحشة الثراء إلى امرأة
مهووسة ، مُهملة ، ناسية أهلها ،'شيزوفرينيك' ، مُدمنة سافرت عدة مرات للعلاج و
لكنها فشلت و عادت لتكون قربه بأي ثمن .
وجدت فريدة في ذلك اليوم مُفتاح غُرفتي "السرية" في حقيبتها ، و
ذلك ما أثار شكوكها لتبحث عن متعلق شخصي يدلها لشخص ما ، و كانت جليلة أول شخص .
كان لزوجي قريبة تُدعى داليدا ، تجلس وسطكم الآن غالباً قُرب إيزابل ،
(دائماً ما يميل المرء إلى ما هو عكسه ) ؛ لديها سر ما و لكن لا تقولوا لأحد خاصةً
لزوجها *شششششش :لقد كانت تحب زوجي كثيراً* ، حاولت بكل الطرق قلعه من جليلة ، و
عندما تركها ظنت أنها فازَت ، و لكنه سرعان ما أثبت عكس ذلك على أي حال ، على
الرغم من أن جليلة مازالت تظن أنها السبب فعلاً ، و هو ما جعل دجى و فريدة تذهبان
لها لتسمعا أخبار العالم و شيء قليل عن الحفل . و كحلٍ مثالي لداليدا ربما لتبقى
قريبة من ليث أو لظنها أن هذا يغيظه ، حسناً ... تزوجت من أقرب أصدقائه ؛ الذي ذاب
لفكرة أن فتاة ما تريده حقاً . هل فكرتم في صديقه للحظة الآن ؟ هذا سادتي الحضور
ما أطلق عليه في أشعاري "حب الإنتقام".
بعد ذلك زرن إيزابل ، أليس كذلك ؟ و لكن أولاً لئلا نتهم زوراً ، أنا قد
أمرت أحد الخدم بإعثار إيزابل بالقرب مني لتبدو كأنها سكبت مشروبها على فستاني .
لا نتهم الناس زوراً هنا ، نتهمهم فقط بما فعلوا ، و هذا ما فعلوا : كانت علاقة إيزابل
بليث فريدة من نوعها ، حسناً ليس كثيراً فقد تعرف عليها في إحدى الملاهي الليلية
ماذا ننتظر ؟ لا أود في دخول تفاصيل ذلك و لكن فنانتنا الصغيرة فتنت فناننا الصغير
، و ظلت تفتنه حتى بعد أن تزوجني ، فهي لم يكن لديها مشكلة أن تكون إختيار ثانٍ
لديه ، يذهب لها عندما يُريد هو . كانت صورها العارية في أدراجه و أشيائه ، لا
يهتم حتى أن يخفيها حفاظاً على مشاعري ...
و تلك الشذى التي ترونها و لا تعرفون من أين أتت و من دعاها ، فالأقدمها
لكم الآن لأنه لم تسنح لي الفرصة في الحفل الماضي ، كنتُ أموت ، تلك : عشيقة زوجي
التي دائماً ما تُغرقه في هداياها الصغيرة الرخيصة ، التي يهتم بها كثيراً كأنها
ثروته أو ما شابه ... شكراً لكِ شذى على إثبات أن الناس لا يتغيرون !
لا أعرف كيف أشكر كل واحد من جميعكم ، فلكل واحد منكم قصة ، يا شخصيات
حياتي ، دمرتني . لكل منكم دور في قتلي. فقد كنت لا أعرف كيف أن مفهوم الحب لديكم
لا يمت لصلة بالحقيقة ؛ لديكم الحب هو إما حب الهوس ، أو حب الإنتقام ، أو حب
الشهوة ، أو خيانة !!
كذلك لا أعرف ماذا أقول لك يا زوجي العزيز ؛ الذي أريتني كيف يُمكن لي أن
أكره نفسي لأنني أحببتك من كل قلبي . حتى بعد إكتشافي كل ذلك : جليلة التي كانت
تأتي تحت بيتنا كل ليلة و تنام على الأرض ، جوابات داليدا القديمة التي تحتفظ بها
، صور إيزابل ، هدايا شذي ؛ بعد كل ذلك مازلت أحبك ، و لأنني أُحبك كنت أتركك تفعل
ما تُحب .
في النهاية أود حقاً شكر فريدة و دجى صديقتا عمري : فريدة التي كانت تصادقني
لأنها تحب زوجي و تريد التقرب منه بأي ثمن ، حتى كانت دائماً تحاول لفت إنتباهه
بملابسها و مستحضرات تجميلها المبالغ فيها (كأنني لا أعرف)؛ و دجى التي كانت
تلازمني طمعاً في مالي و أملاكي ؛ دائماً ما كانت تحب التسوق معي .حقاً شكراً ؛
كان لكم أسبابكم و كانت قوية كفاية لجعلكم لا تتركوني وحدي أبداً !
"القاتل مازال حياً" و هو أنا ، نعم أنا القاتل ، قد متُّ بجسدي
و لكن روحي مازالت تحيا في عقولكم و تسبب لكم المشاكل ، فقد كان لكل واحد منكم
دوراً في قتلي بجفائكم و بغضائكم و ريائكم . روحي ستستمر في تعكير صفوكم دائماً و
أبداً ؛ أو بالأحرى في الدقائق القليلة القادمة . نعم أنا من قتل نفسي ؛ طفت في
الحفل و وضعت مفتاح غرفتي في حقيبة فريدة ، و وضعت ورقة تقول 'إحمل زهرتك الذابلة
من هنا ... ضعها حيث لا يجدها أحد حتى لا يقولون أنت من قتلتها' في جيب ليث و أنا
أُقبِّل ظهره قبلة أخيرة ؛ و لكنه كان يرقص مع شذى بالطبع فلم يشعر بي ؛ ثم صعدت و
شنقت نفسي ظناً مني أنه سيأخذ جثتي و يضعها في غرفة مراقبتي لأنه لن يصل إليها أحد
، لذلك شغلت بها 'بكتب اسمك يا حبيبي ' قبل موتي لتسمعها "صديقاتيَّ"
عند دخولهن ، كما أنني وضعت سكيناً ليُفهم أنها جريمة قتل و ورقة في سلسلتي بإسم
آخر رواياتي "القاتل مازال حياً" . و الآن ما رأيكم بتلك الرواية يا
ضيوفي الأعزاء ؟ مُحكمة أليس كذلك ؟ نعم فأنا كاتبة جيدة ، و لكنني لا أُخبر بذلك
دائماً لأنني أؤمن أن الكاتبة لا تصنف ذاتها ، بل يُصنفها من يحبون عملها .
و لكي لا أُطيل عليكم أكثر ، و لأجعلكم تُحبون تلك الرواية أكثر ، سأترككم
للبقية القليلة للحفل الآن ، أو بالأحرى لما تبقى من حياتكم : فقد جهزت خمركم الذي
شربتم منه جيداً حتى أنه لن يترك أحد منكم على قيد الحياة بعد هذا الحفل السعيد .
أما ليث، حبيبي الذي عشقت ، الذي لا يشرب من زجاجة النبيذ الخاصة بالضيوف ، لدي
مفاجأة خاصة لك ، فالمهدئ الذي تتناوله كل صباح قد تغير إلى دواء آخر يظهر مفعوله
بعد أسبوعين ، و حسناً ... بدأت فيروز بإعطاؤه لك منذ أسبوعين . لا تغضبوا على
الفتاة الضعيفة ، هي لا تعرف شيئاً ، أنا من أمرت و جهزت لكل هذا ... و كما
أخبرتكم بأول التسجيل ؛ لن تستطيعوا الإنتقام الآن .
عمتم مساءاً أخيراً ... أراكم بعد دقائق !’
"... في السهرة أنتظر ، و يطول بي السهر ، فيسائلني القمر ، يا حلوة
ما الخبر ، فأجيبه و القلب قد تيَّمه الحب ، يا بدر أنا السبب أحببت بلا أمل ... أهواك
.. أهواك .. أهواك بلا أمل ...”
Commentaires
Enregistrer un commentaire